[عودة] الكلمة الثانية والثلاثون: تفسير سورة القارعة

الكلمة الثانية والثلاثون: تفسير سورة القارعة
الحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فمن سور القرآن العظيم التي تتكرر على أسماعنا، وتحتاج منا إلى تأمل وتدبر: سورة القارعة؛ قال تعالى: {الْقَارِعَة (1) مَا الْقَارِعَة (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش (5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَة (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه (10) نَارٌ حَامِيَة (11)} [القارعة].
قوله تعالى: {الْقَارِعَة (1)}: المراد التي تفزع القلوب وتقرعها وذلك عند النفخ في الصور، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِين (87)} [النمل]. فهي تفزع القلوب بعد قرع الأسماع، وهذه القارعة قارعة عظيمة لا نظير لها قبل ذلك، وهي من أسماء يوم القيامة؛ كما تسمى الغاشية، والحاقة، والطامة الكبرى، والصاخة، وغيرها.
قوله تعالى: {مَا الْقَارِعَة (2)}: استفهام بمعنى التعظيم والتفخيم، يعني: ما هي القارعة التي ينوه عنها؟!
قوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَة (3)}: هذا زيادة في التفخيم والتعظيم والتهويل، يعني: أي شيء أعلمك عن هذه القارعة؟ أي ما أعظمها! وما أشدها! ثم بيَّن متى تكون؟
قوله تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوث (4)} أي: أنها تكون في ذلك الوقت يوم يكون الناس كالفراش المبثوث حين يخرجون من قبورهم، قال العلماء: يكونون كالفراش المبثوث، والفراش هي الحشرات الصغيرة التي تتزاحم عند وجود النار في الليل، وهي ضعيفة وتكاد تمشي بدون هدى وتتراكم، وربما لطيشها تقع في النار وهي لا تدري؛ فهم يشبهون الفراش في ضعفه وحيرته وتراكمه وسيره إلى غير هدى؛ {الْمَبْثُوث} يعني: المنتشر، فهو كقوله تعالى: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِر (7)} [القمر]. يعني: لو تصوَّرتَ هذا المشهد يخرج الناس من قبورهم على هذا الوجه، لتصوَّرتَ أمراً عظيمًا لا نظير له. هؤلاء العالم من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة: كلهم يخرجون خروج رجل واحد في آن واحد من هذه القبور المبعثرة في مشارق الأرض ومغاربها، ومن غير القبور كالذي أُلقي في لجة البحر، أو أكلته الحيتان، أو في فلوات الأرض وأكلته السباع أو احترق جسده، أو ما أشبه ذلك: كلهم سيخرجون مرة واحدة إلى أرض الحشر.
قوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوش (5)}، فهذه الجبال العظيمة الراسية تكون كالعهن أي الصوف، وقيل: القطن المنفوش أي المبعثر سواء نفشته بيدك أو بالمنداف، فإنه يكون خفيفًا يتطاير مع أدنى ريح، كما قال تعالى: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا (6)} [الواقعة]. وكما قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106)} [طه].
قوله تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة (7)}.
{مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُه}: فهو الذي رجحت حسناته على سيئاته {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة (7)} أي حياة طيبة ليس فيها نكد ولا صخب، بل هي كاملة من جميع الوجوه، قال تعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُور (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوب (35)} [فاطر]. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة (7) جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه (8)} [البينة].
{وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُه (8)}: وهو الذي رجحت سيئاته على حسناته، أو الذي ليست له حسنات أصلاً كالكافر، لأنه يجازى على حسناته في الدنيا، فإذا أفضى إلى الآخرة، لم يكن له عند اللَّه نصيب؛ روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً، يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا، وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ؛ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا للَّهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ، لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» (¬1).
قوله تعالى: {فَأُمُّهُ هَاوِيَة (9)}: أي أن مآله إلى نار جهنم والهاوية من أسماء النار، وقيل: المراد بالأم هنا أم الدماغ، والمعنى أنه يلقى في النار على أم رأسه؛ ولا مانع من اجتماع الأمرين، فيقال: يرمى في النار على أم رأسه، وليس له مأوى ولا مقصد إلا النار.
قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه (10) نَارٌ حَامِيَة (11)}، هذا من باب التفخيم والتعظيم لهذه الهاوية: يسأل ما هي؟ ثم يجيب: إنها نار حامية في غاية ما يكون من الحرارة، وقد قال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: «إنها فُضِّلَتْ عَلَى نَارِ الدُّنيَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا» (¬2)؛ وإذا تأملت نار الدنيا كلها سواء نار الحطب أو الورق أو الفرن أو أشد من ذلك، فإن نار جهنم مفضَّلة عليها بتسعة وستين جزءًا، نسأل اللَّه السلامة والعافية.
ومن فوائد السورة الكريمة:
أولاً: أنه ينبغي للمؤمن أن يقي نفسه من عذاب اللَّه، وهذه الوقاية تكون بفعل الخير ولو بأقل القليل؛ روى مسلم في صحيحه من حديث عدي بن حاتم رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ» (¬3).
ثانيًا: أن السورة الكريمة سكتت عمن تساوت حسناته وسيئاته، ولكن بيَّن اللَّه تعالى في سورة الأعراف أنهم لا يدخلون النار، وإنما يحبسون في مكان يقال له: الأعراف؛ وذكر اللَّه تعالى في سورة الأعراف ما يجري بينهم وبين المؤمنين، قال تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين (47)} [الأعراف].
ثالثًا: عظم ما أعد اللَّه لأعدائه من العذاب والنكال، ففي هذه السورة أخبر عن شدة حرارتها، وفي آية أخرى عن هولها وشدة عذابها، فقال: {كَلاَّ إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِّلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)} [المعارج].
وأخبر في آية أخرى أن حطب النار التي توقد بها جثث بني آدم هي حجارة من الكبريت الأسود، فقال سبحانه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُون (6)} [التحريم]. وقال سبحانه: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلاتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيد (30)} [ق].
روى مسلم في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن مسعود رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا» (¬4) (¬5).
والحمد للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) ص 1129 برقم 2808.
(¬2) ص625 - 626 برقم 3265، وصحيح مسلم ص 1141 برقم 2843.
(¬3) ص 392 برقم 1016.
(¬4) ص 1141 برقم 2842.
(¬5) انظر: تفسير الشيخ ابن عثيمين رحمه الله ص300 - 304.