[عودة] الكلمة الرابعة عشرة: قسوة القلب
الكلمة الرابعة عشرة: قسوة القلب
الحمدُ للَّه، والصلاة والسلام على رسول اللَّه، وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
فإن من أعظم العقوبات التي يبتلى بها العبد: قسوة القلب، قال ابن منظور: القسوة في القلب ذهاب اللين والرحمة والخشوع منه (¬1).
وقال القرطبي: القسوة الصلابة والشدة واليُبس وهي عبارة عن خلوها من الإنابة والإذعان لآيات اللَّه تعالى (¬2).
قال تعالى: {أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلاَ يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُون (16)} [الحديد].
قال ابن كثير: «يقول تعالى في هذه الآية: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر اللَّه، أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن، فتفهمه وتنقاد له، وتسمع له وتطيعه» (¬3) ، قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: «إن اللَّه استبطأ قلوب المؤمنين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن، فقال: {أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} الآية» (¬4). روى مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي اللهُ عنه أنه قال: «ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا اللَّه بهذه الآية: {أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}، إلا أربعُ سنين» (¬5).
فإذا كان اللَّه قد حذر الصحابة، وهم خير القرون وأهل قيام الليل وصيام النهار والجهاد في سبيل اللَّه، والوحي ينزل عليهم ليلاً ونهارًا، فكيف بنا نحن في هذا الزمن الذي تعلَّق فيه الكثير منا بالدنيا وانتشرت الفتن، وأصبح الواحد منا يعيش غربة الدين؟ !
لقد نهى اللَّه المؤمنين أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب قبلهم من اليهود والنصارى، لما تطاول عليهم الأمد بدَّلوا كتاب اللَّه الذي بأيديهم، واشتروا به ثمنًا قليلًا، ونبذوه وراء ظهورهم، وأقبلوا على الآراء المختلفة والأقوال المؤتفكة، وقلَّدوا الرجال في دين اللَّه، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون اللَّه، فعند ذلك: قست قلوبهم فلا يقبلون موعظة، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد (¬6).
وذكر أهل التفسير: أن سبب توبة الفضيل بن عياض - وكان من قطاع الطريق - أنه عشق جارية فواعدته ليلًا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئًا يقرأ: {أَلَمْ يَانِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}؛ فرجع القهقهرى وهو يقول: بلى واللَّه قد آن! فآواه الليل إلى خربة (¬7) وفيها جماعة من السابلة (¬8) ، وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلاً يقطع الطريق، فقال الفضيل: أوَّاه! أراني بالليل أسعى في معاصي اللَّه، قوم من المسلمين يخافونني: اللَّهم إني قد تبت إليك، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام (¬9).
وقد توعَّد اللَّه أصحاب القلوب القاسية بالعذاب الأليم، وبيَّن أن قسوة القلب سبب للضلال وانغلاق القلب، فلا يخشع ولا يعي ولا يفهم، قال تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِّن رَّبِّهِ فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22]، وهذه الآية كقوله عزَّ وجلَّ: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا} [الأنعام: 122].
قال الشاعر:
إذا قسا القلبُ لم تنفعهُ موعظة
كالأرض إن سَبِخَت لم ينفَعِ المطرُ
قال مالك بن دينار: ما ضُرِب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب اللَّه على قوم إلا نزع الرحمة من قلوبهم.
وقد ذم اللَّه في كتابه قسوة القلب، وأخبر أنها مانع عن قبول الحق والعمل به، قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُون (74)} [البقرة].
قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما - في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ} -: «أي من الحجارة لألين من قلوبكم، عمَّا تدعون إليه من الحق فلا تستجيبون» (¬10).
وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَاسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون (42)} [الأنعام]؛ أي الفقر والضيق في العيش، والضراء: وهي الأمراض والأسقام والآلام، {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون}: أي لعلهم يتضرعون إليه ويخشونه ويدعونه.
وقال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَاسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون (43)} [الأنعام]؛ أي فهلاً إذا ابتليناهم بذلك: تضرعوا إلينا، وتمسكنوا لدينا؟ ! {وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ}: أي ما رقَّت ولا خشعت، {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون}: أي من الشرك والمعاندة والمعاصي.
وكان نبينا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من أرق الناس قلبًا، قال تعالى: {وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159].
روى البخاري في صحيحه من حديث عبد اللَّه بن عمرو بن العاص رضي اللهُ عنهما: أن عطاء بن يسار سأله أن يخبره عن صفة رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في التوراة، قال: أجل واللَّه إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأمِّيِّين، أنت عبدي ورسولي سمَّيتك المتوكِّل، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخَّاب (¬11) في الأسواق؛ ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه اللَّه حتى يقيم به الملة العوجاء بأن يقولوا: لا إله إلا اللَّه، فيفتح به أعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا، وقلوبًا غُلفًا (¬12).
وفي الصحيحين من حديث عبد اللَّه - ابن مسعود رضي اللهُ عنه -: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال له: «اقرَأ عَلَيَّ؟ » قلت: يا رسول اللَّه آقرأ عليك وعليك أُنزل؟ ! فقال النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «نَعَم»؛ فقرأتُ سورة النساء، حتى أتيت إلى هذه الآية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيدًا (41)} [النساء]؛ قال: «حَسْبُكَ الآنَ»، فالتفتُّ إليه: فإذا عيناه تذرفان (¬13).
ومن أسباب لين القلب: الإكثار من ذكر اللَّه وقراءة القرآن، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب (28)} [الرعد].
وقال تعالى: {لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21].
ومنها إطعام المسكين ومسح رأس اليتيم، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنْ أَرَدْتَ تَلْيِينَ قَلْبِكَ فَأَطْعِمِ الْمِسْكِينَ وَامْسَحْ رَاسَ الْيَتِيمِ» (¬14).
وكذلك زيارة المقابر والمرضى، والزهد في الدنيا وتذكُّر الموت والآخرة، روى مسلم في صحيحه وابن ماجه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «زُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْآخِرَةَ» (¬15).
وروى الترمذي في سننه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَكْثِرُوا ذِكْرَ هَادِمِ اللَّذَّاتِ» (¬16) يعني الموت، وفي رواية «فَمَا ذَكَرَهُ عَبدٌ قَطُّ وَهُوَ فِي ضِيقٍ إِلَّا وَسَّعَهُ عَلَيهِ، وَلَا ذَكَرَهُ وَهُوَ فِي سِعَةٍ إِلَّا ضَيَّقَهُ عَلَيهِ» (¬17).
قال الشاعر:
دواءُ قَلْبِكَ خمسٌ عِنْدَ قَسْوتِهِ
فَادْأَبْ عَلَيها تَفُزْ بالخيرِ والظفرِ
خَلاءُ بَطنِ وقرآنٌ تَدَبَّرُه
كَذَا تَضَرُّعُ باكٍ ساعةَ السَّحَرِ
ثُمَّ التهجدُ جُنْحَ الليلِ أوْسَطَهُ
وأن تُجَالِسَ أَهْلَ الخَيْرِ والخَبَرِ
والحمدُ للَّه رب العالمين، وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) لسان العرب (15/ 181).
(¬2) الجامع لأحكام القرآن (2/ 204).
(¬3) تفسير ابن كثير (13/ 421).
(¬4) تفسير ابن كثير (13/ 421).
(¬5) ص 1211، برقم 3027.
(¬6) تفسير ابن كثير (13/ 423).
(¬7) خربة: موضع الخراب.
(¬8) السابلة: المارون على الطرقات المترددون في حوائجهم.
(¬9) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (20/ 256).
(¬10) تفسير ابن كثير (1/ 457).
(¬11) وهو رفع الصوت بالخصام.
(¬12) ص 950 برقم 4838.
(¬13) ص 1001، برقم 5050، وصحيح مسلم ص 313، برقم 800.
(¬14) (2/ 263) وصححه الشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (2/ 533) برقم 854.
(¬15) ص 377، برقم 976، وابن ماجه ص 171، برقم 1569 - واللفظ له -.
(¬16) ص 381، برقم 2307، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح غريب.
(¬17) أخرجها ابن حبان في صحيحه، ص534 برقم 2982.