[عودة] الكلمة السابعة: البركة
الكلمة السابعة: البركة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإِنّه ينبغي للمسلم أن يسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك له في علمه وعمله، وفي وقته وماله، وفي أهله وأولاده، وفي دنياه وآخرته، وأن يحرص على الأسباب التي تستجلب بها البركة.
قال الراغب: «البركة هي ثبوت الخير الإِلهي في الشيء» (¬1). اهـ.
فالبركة ما حلت في قليل إلا كثر، ولا كثير إلا نفع، وإن من أعظم ثمار البركة في الأمور كلها استعمالها في طاعة الله عز وجل.
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
ولما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه رضي الله عنهم أعظم الناس قيامًا بالتقوى ولوازمها، كانت البركة لهم وبهم أَعظم وأعم، ولقد هداهم الله تعالى ومن شاء من صالحي العباد إلى ما فيه الخير كله والبركة كلها، وهو هذا الكتاب العظيم الذي أمر الناس بتعلمه وتدبره.
قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} [ص: 29].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي عثمان قال: قال عبد الرحمن ابن أبي بكر رضي الله عنهما: جَاءَ أَبُو بَكْرٍ بِضَيْفٍ لَهُ - أَوْ بِأَضْيَافٍ لَهُ -، فَأَمْسَى عِنْدَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَلَمَّا جَاءَ قَالَتْ أُمِّي: احْتَبَسْتَ عَنْ ضَيْفِكَ - أَوْ أَضْيَافِكَ - اللَّيْلَةَ. قَالَ: مَا عَشَّيْتِهِمْ؟ فَقَالَتْ: عَرَضْنَا عَلَيْهِ - أَوْ عَلَيْهِمْ فَأَبَوْا أَوْ - فَأَبَى، فَغَضِبَ أَبُو بَكْرٍ فَسَبَّ وَجَدَّعَ، وَحَلَفَ لاَ يَطْعَمُهُ، فَاخْتَبَاتُ أَنَا فَقَالَ: يَا غُنْثَرُ. فَحَلَفَتِ الْمَرْأَةُ لاَ تَطْعَمُهُ حَتَّى يَطْعَمَهُ، فَحَلَفَ الضَّيْفُ - أَوِ الأَضْيَافُ - أَنْ لاَ يَطْعَمَهُ - أَوْ يَطْعَمُوهُ - حَتَّى يَطْعَمَهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: كَأَنَّ هَذِهِ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَدَعَا بِالطَّعَامِ، فَأَكَلَ وَأَكَلُوا، فَجَعَلُوا لاَ يَرْفَعُونَ لُقْمَةً إِلاَّ رَبَا مِنْ أَسْفَلِهَا أَكْثَرُ مِنْهَا، فَقَالَ: يَا أُخْتَ بَنِي فِرَاسٍ مَا هَذَا؟ فَقَالَتْ: وَقُرَّةِ عَيْنِي إِنَّهَا الآنَ لأَكْثَرُ قَبْلَ أَنْ نَاكُلَ، فَأَكَلُوا وَبَعَثَ بِهَا إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - فَذَكَرَ أَنَّهُ أَكَلَ مِنْهَا (¬2).
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: «لَقَدْ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَمَا فِي رَفِّي مِنْ شَيْءٍ يَاكُلُهُ ذُو كَبِدٍ، إِلاَّ شَطْرُ شَعِيرٍ فِي رَفٍّ لِي، فَأَكَلْتُ مِنْهُ حَتَّى طَالَ عَلَيَّ، فَكِلْتُهُ، فَفَنِيَ» (¬3).
وهناك أسباب كثيرة تُستجلب بها البركة.
منها: تقوى الله جل وعلا، فما اتَّقَى الله عبد في أي أمرٍ من أُموره، إلاَّ بارك الله له فيه بقدر تقواه أو أعظم.
قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف: 96].
ومنها: الدعاء، ولقد علمنا النبي - صلى الله عليه وسلم - الدعاء بطلب البركة في أمور كثيرة، فقد علمنا أن ندعو للمتزوج: فنقول: «بَارَكَ اللهُ لَكَ، وَبَارَكَ عَلَيْكَ، وَجَمَعَ بَيْنَكُمَا فِي الخَيْرٍ» (¬4)، وعلمنا أن ندعو لمن أطعمنا فنقول: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِيمَا رَزَقْتَهُمْ، وَاغْفِرْ لَهُمْ وَارْحَمْهُمْ» (¬5)، وعلمنا أن ندعو بالبركة في طعامنا فنقول: «اللهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِيهِ» (¬6).
وكَانَ - صلى الله عليه وسلم - يُؤتَى بِالأَطفَالِ فَيَدعُو لَهُم بالبَرَكَةِ (¬7)، وَإِذَا أَتَوْهُ بالبَاكُورَةِ مِنَ الثَّمَرَةِ دَعَا فِيهَا بالبَرَكَةِ، فَقَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَفِي ثِمَارِنَا، وَفِي مُدِّنَا، وَفِي صَاعِنَا، بَرَكَةً مَعَ بَرَكَةٍ». ثُمَّ يُعْطِيهِ أَصْغَرَ مَنْ يَحْضُرُهُ مِنَ الْوِلْدَانِ (¬8).
ومنها أن يأخذ المال بطيب نفس من غير شره ولا إلحاح.
قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لحكيم بن حزام - رضي الله عنه -: «يَا حَكِيمُ! إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَاكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ» (¬9).
ويلحق بهذا إنفاق المال في وجوه البر وإخراج زكاته، وبذل حقوقه بإِخلاص وطيب نفس.
قال تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39].
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» (¬10).
وفي حديث قدسي عن أبي هريرة - رضي الله عنه -: يبلغ به النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «قَالَ اللهُ تبارك وتعالى: يَا ابْنَ آدَمَ أَنْفِقْ أُنْفِقْ عَلَيْكَ» (¬11).
ومنها: الصدق في المعاملة من بيع وشراء وتجارة وشراكة وغيرها.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، فَإِنْ صَدَقَا وَبَيَّنَا بُورِكَ لَهُمَا فِي بَيْعِهِمَا، وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا» (¬12).
ومنها: قضاء الأعمال والتجارات في أول النهار؛ روى الإمام أحمد في مسنده من حديث صخر الغامدي - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا» (¬13).
قَالَ: فَكَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً بَعَثَهَا أَوَّلَ النَّهَارِ، وَكَانَ صَخْرٌ رَجُلاً تَاجِرًا، وَكَانَ لاَ يَبْعَثُ غِلْمَانَهُ إِلاَّ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ، فَكَثُرَ مَالُهُ حَتَّى كَانَ لاَ يَدْرِي أَيْنَ يَضَعُ مَالَهُ؟!
ومنها: اتباع السنة في الطعام والشراب، وفيه أحاديث نشير إلى بعضها، روى الترمذي في سننه من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «الْبَرَكَةُ تَنْزِلُ وَسَطَ الطَّعَامِ، فَكُلُوا مِنْ حَافَتَيْهِ وَلاَ تَاكُلُوا مِنْ وَسَطِهِ» (¬14).
وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: أَمَرَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِلَعْقِ الأَصَابِعِ وَالصَّحْفَةِ، وَقَالَ: «إِنَّكُمْ لاَ تَدْرُونَ فِي أَيِّ طَعَامِكُمُ الْبَرَكَةُ» (¬15).
وروى ابن ماجه في سننه من حديث وحشي - رضي الله عنه - أنهم قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ: إِنَّا نَاكُلُ وَلاَ نَشْبَعُ؛ قَالَ: «فَلَعَلَّكُمْ تَأكُلُونَ مُتَفَرِّقِينَ». قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: «فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ، وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ، يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ» (¬16).
ومنها: أي من أسباب حصول البركة، استخارة المولى جل وعلا في الأمور كلها، مع الإِيمان بأَن ما يختاره الله لعبده خير مما يختاره لنفسه في العاجل والآجل؛ وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - من شدة حرصه عليها يعلمها أصحابه كما يعلمهم السورة من القرآن؛ فيقول: «إِذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِالأَمْرِ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ، ثُمَّ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْتَخِيرُكَ بِعِلْمِكَ، وَأَسْتَقْدِرُكَ بِقُدْرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ مِنْ فَضْلِكَ الْعَظِيمِ، فَإِنَّكَ تَقْدِرُ وَلاَ أَقْدِرُ، وَتَعْلَمُ وَلاَ أَعْلَمُ، وَأَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي - أَوْ قَالَ: عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ -، فَاقْدُرْهُ لِي وَيَسِّرْهُ لِي ثُمَّ بَارِكْ لِي فِيهِ، وَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الأَمْرَ شَرٌّ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي، - أَوْ قَالَ: فِي عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ -، فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ، وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ» (¬17).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) معجم مفردات ألفاظ القرآن الكريم (41).
(¬2) صحيح البخاري برقم (6141)، وصحيح مسلم برقم (2057).
(¬3) صحيح البخاري برقم (6451)، وصحيح مسلم برقم (2973).
(¬4) سنن الترمذي برقم (1091)، وقال: حسن صحيح.
(¬5) صحيح مسلم برقم (2042).
(¬6) أبو داود برقم (3730)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (381).
(¬7) سنن أبي داود برقم (5106)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (3/ 961) برقم (4259).
(¬8) انظر: صحيح مسلم برقم (1373).
(¬9) صحيح البخاري برقم (1472)، وصحيح مسلم برقم (1035).
(¬10) صحيح مسلم جزء من حديث برقم (2588).
(¬11) صحيح البخاري برقم (4684)، وصحيح مسلم برقم (993).
(¬12) صحيح البخاري برقم (2110)، وصحيح مسلم برقم (1532).
(¬13) مسند الإمام أحمد (3/ 416) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير برقم (1300).
(¬14) سنن الترمذي برقم (1805) وقال: حديث حسن صحيح.
(¬15) صحيح مسلم برقم (2034).
(¬16) سنن ابن ماجه برقم (3286) وحسنه الألباني في صحيح ابن ماجه برقم (2674).
(¬17) صحيح البخاري برقم (1162).