[عودة] الكلمة الحادية والتسعون: شرح اسم من أسماء الله الحسنى (العزيز)

الكلمة الحادية والتسعون: شرح اسم من أسماء الله الحسنى (العزيز)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وبعد:
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لِلَّهِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ اسْمًا، مِئَةٌ إِلاَّ وَاحِدًا، لاَ يَحْفَظُهَا أَحَدٌ إِلاَّ دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهْوَ وَتْرٌ يُحِبُّ الْوَتْرَ» (¬1)، وفي رواية: «مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬2).
ومن أسماء الله الحسنى: العزيز، قال القرطبي: «العَزِيزُ مَعنَاهُ المَنِيعُ، الَّذِي لاَ يُنَالُ، وَلاَ يُغالَبُ» (¬3)، وقال ابن كثير: العَزِيزُ: الَّذِي عَزَّ كُلُّ شَيءٍ فَقَهَرَهُ، وَغَلَبَ الأَشيَاءَ فَلاَ يُنَالُ جَنَابُهُ لِعِزَّتِهِ، وَعَظَمَتِهِ، وَجَبَرُوتِهِ، وَكِبرِيَائِهِ (¬4).
قال ابن القيم رحمه الله: العزة متضمنة لأنواع ثلاثة:
1 - عزة القوة، الدال عليها من أسمائه القوي المتين.
2 - عزة الامتناع، فإنه هو الغني بذاته، فلا يحتاج إلى أحد، ولا يبلغ العباد ضره فيضروه، ولا نفعه فينفعوه، بل هو الضار النافع المعطي المانع.
3 - عزة القهر، والغلبة لكل الكائنات، فهي كلها مقهورة لله خاضعة لعظمته، منقادة لإرادته، لا يتحرك منها متحرك إلا بحوله، وقوته (¬5)، وقال بعضهم: ذكر العزيز في القرآن في اثنتين وتسعين مرة (¬6)، قال تعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 260]، وقال تعالى: {وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [آل عمران: 4]، وقال أيضًا: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ} [يس: 38].
ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم:
أولاً: الإيمان بالله سبحانه وتعالى، وأن من أسمائه: العزيز الذي لا يُغلب، ولا يُقهر، يُعطي الشجاعة والثقة به سبحانه، لأن معناه أن ربه لا يُمانع، ولا يرد أمره، وأنه ما شاء كان، وإن لم يشأ الناس، وما لم يشأ لم يكن وإن شاؤوا، والمتأمل في قصص الأنبياء والرسل يجد ذلك واضحًا جليًا، فمن ذلك قصة موسى عليه السلام، عندما حاول فرعون أن يمنع خروج هذا الصبي بأن أمر بقتل جميع الذكور من بني إسرائيل، لأنه علم أنه سيخرج فيهم نبي ينتزع منه ملكه، ولكن يأبى الله العزيز إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون، فولد موسى عليه السلام، وتربى في قصر فرعون، وفي بيته، وتحت رعايته، ولما حاول قتله أهلكه الله، وقائده هامان، وجنوده أجمعين، وغيرها من القصص (¬7).
ثانيًا: أن العزيز في الدنيا والآخرة هو من أعزه الله، قال تعالى: {قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ المُلْكِ تُؤْتِي المُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، فمن طلب العزة فليطلبها من رب العزة، قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ العِزَّةَ فَللهِ العِزَّةُ جَمِيعًا} [فاطر: 10]، أي من أحب أن يكون عزيزًا في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله، فإنه يحصل له مقصوده، لأن الله مالك الدنيا والآخرة، وله العزة جميعًا، وقد ذم الله أقوامًا طلبوا العزة من غيره سبحانه، فوالوا أعداء الله من الكافرين، ظنًا منهم أن هذا هو سبيل العزة، وطريقها، قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ المُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ العِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ للهِ جَمِيعًا} [النساء: 139].
ومع عظم الطاعة تزداد العزة، فأعز الناس هم الأنبياء، ثم الذين يلونهم من المؤمنين المتبعين لهم.
قال فخر الدين الرازي: «وعزة كل أحد بقدر علو رتبته في الدين، فإنه كلما كانت هذه الصفة فيه أكمل كان وجدان مثله أقل، وكان أشد عزة، وأكمل رفعة» (¬8).
ولهذا قال سبحانه: {وَللهِ العِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: «أَلَمْ تَكُونُوا أَذِلَّةً فَأَعَزَّكُمُ اللهُ» (¬9).
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب: «نَحنُ قَوْمٌ أَعَزَّنَا اللهُ بِالإِسْلاَمِ، فَمَهمَا ابتَغَينَا العِزَّةَ بِغَيرِهِ أَذَلَّنَا اللهُ» (¬10)، وكان من دعاء السلف: «اللَّهُمَّ أَعِزَّنَا بِطَاعَتِكَ وَلاَ تُذِلَّنَا بِمَعصِيَتِكَ» (¬11).
فصاحب الطاعة عزيز، وصاحب المعصية ذليل، ولذلك يقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه أحمد في مسنده من حديث ابن عمر: «وَجُعِلَ الذُّلُ وَالصَّغَارُ عَلَى مَنْ خَالَفَ أَمْرِي» (¬12).
ثالثًا: سؤال الله تعالى، والتضرع إليه بهذا الاسم العزيز، روى الترمذي في سننه من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا اشْتَكَيْتَ فَضَعْ يَدَكَ حَيْثُ تَشْتَكِي، وَقُلْ: بِسْمِ اللهِ، أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ مِنْ وَجَعِي هَذَا، ثُمَّ ارْفَعْ يَدَكَ، ثُمَّ أَعِدْ ذَلِكَ وِتْرًا» (¬13).
وروى البخاري ومسلم من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي، أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ، وَالْجِنُّ وَالإِنْسُ يَمُوتُونَ» (¬14).
رابعًا: من أسباب العزة والرفعة العفو والتواضع، روى مسلم من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللهُ» (¬15). فمن عفا عن شيء مع مقدرته على الانتقام، عظم في القلوب في الدنيا، وفي الآخرة يعظم الله له الثواب، وكذلك التواضع رفعة في الدنيا والآخرة.
خامسًا: أن ما أصاب المسلمين من ضعف، وذل وهوان، وتخلف عن بقية الأمم في هذه الأزمنة، إنما هو بسبب المعاصي والذنوب، والبعد عن دين الله تعالى، ولو أنهم تمسكوا بهذا الدين، وعملوا به لأعزهم الله، ونصرهم على الأعداء، ولأصبحوا سادة العالم، وقادة الشعوب، كما حصل للصحابة رضي الله عنهم، فقد وصلت فتوحاتهم إلى مشارق الأرض ومغاربها، قال تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: 55].
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث تميم الداري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيَبْلُغَنَّ هَذَا الأَمْرُ مَا بَلَغَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، وَلاَ يَتْرُكُ اللهُ بَيْتَ مَدَرٍ، وَلاَ وَبَرٍ إِلاَّ أَدْخَلَهُ اللهُ هَذَا الدِّينَ بِعِزِّ عَزِيزٍ، أَوْ بِذُلِّ ذَلِيلٍ، عِزًّا يُعِزُّ اللهُ بِهِ الإِسْلاَمَ، وَذُلاًّ يُذِلُّ اللهُ بِهِ الْكُفْرَ».
وَكَانَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَقُولُ: قَدْ عَرَفْتُ ذَلِكَ في أَهْلِ بَيْتِي، لَقَدْ أَصَابَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمُ الْخَيْرُ وَالشَّرَفُ وَالْعِزُّ، وَلَقَدْ أَصَابَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ كَافِرًا الذُّلُّ وَالصَّغَارُ، وَالْجِزْيَةُ (¬16).

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) البخاري برقم (6410)، ومسلم برقم (2677).
(¬2) برقم (7392).
(¬3) تفسير القرطبي (2/ 131) نقلاً عن كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى.
(¬4) تفسير ابن كثير (2/ 456) (3/ 6).
(¬5) نزهة الأعين النواظر (434 - 435) نقلاً عن موسوعة نضرة النعيم (7/ 2821 - 2822).
(¬6) النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى، للنجدي (1/ 136).
(¬7) انظر: النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (1/ 138).
(¬8) شرح الأسماء (ص196) نقلاً عن كتاب النهج الأسمى في شرح أسماء الله الحسنى (1/ 140).
(¬9) مسند الإمام أحمد (18/ 105) برقم (11547) وقال محققوه: إسناده صحيح وأصله في الصحيحين.
(¬10) مستدرك الحاكم (1/ 236 - 237) وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، وقال محققه الشيخ عبدالسلام علوش: إسناده صحيح.
(¬11) الجواب الكافي (ص53).
(¬12) سبق تخريجه.
(¬13) برقم (3588) وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (3/ 184) برقم (2838) وأصله في صحيح مسلم.
(¬14) جزء من حديث البخاري برقم (7383)، ومسلم برقم (2717) واللفظ له.
(¬15) برقم (2586).
(¬16) مسند الإمام أحمد (28/ 155) برقم (16957) وقال محققوه: إسناده صحيح.