[عودة] الكلمة الثالثة والأربعون

وقفات مع سورة التكوير(1)

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
فمن سور القرآن الكريم التي تتكرر على أسماعنا، وتحتاج منا إلى وقفة تأمل وتدبر سورة التكوير.
قال تعالى: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ (2) ﴾، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر رضي اللَّه عنهما أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُ رَأْيُ عَيْنٍ؛ فَلْيَقْرَأْ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾و﴿ إِذَا السَّمَاءُ انفَطَرَتْ (1)﴾و﴿إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (1)﴾»، وأحسب أنه قال: «سورة هود» .
أي: إذا حصلت هذه الأمور الهائلة تميز الخلق وعلم كلٌّ ما قدمه لآخرته وما أحضره فيها من خير وشر.
قوله تعالى: ﴿ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ﴾ الشمس كتلة عظيمة كبيرة واسعة، في يوم القيامة يكورها اللَّه عز وجل فيلفها جميعًا ويطوي بعضها على بعض فيذهب نورها، ويلقيها اللهک في النار إغاظة للذين عبدوها من دون الله، كما قال تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98)﴾ [سورة الأنبياء، آية رقم: 98]، ويستثنى من ذلك من عُبد من دون الله من أولياء الله، فإنه لا يلقى في النار، كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَىٰ أُولَٰئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا ۖ وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) ﴾ [سورة الأنبياء: الآيتان: 101- 102].
روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه أن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «الشَّمْسُ وَالقَمَرُ مُكَوَّرَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ» ، وفي رواية: «ثَوْرَانِ مُكَوَّرَانِ فِي النَّارِ يَوْمَ القِيَامَةِ» .
قال الخطابي رحمه اللَّه: ليس المراد بكونهما في النار تعذيبهما بذلك، ولكنه تبكيت لمن كان يعبدهما في الدنيا ليعلموا أن عبادتهم لهما كانت باطلًا.
قال الشيخ الألباني رحمه اللَّه: «وهذا هو الأقرب إلى لفظ الحديث، ويؤيده أن في حديث أنس عند أبي يعلى كما في الفتح 6/214: (ليراهما من عبدهما)، ولم أرها في مسنده، والله تعالى أعلم» .
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا النُّجُومُ انكَدَرَتْ﴾ أي انقضت وتساقطت من السماء فذهب نورها، كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انتَثَرَتْ (2) ﴾ [سورة الانفطار، آية رقم:2]، وقال سبحانه: ﴿فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) ﴾ [سورة المرسلات، آية رقم: 8].
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3)﴾ أي صارت كثيبًا مهيلًا، ثم صارت كالعهن المنفوش ثم تغيرت وصارت هباء منبثًا وأزيلت عن أماكنها.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴾ أي عطل الناس يومئذ نفائس أموالهم التي كانوا يهتمون لها، ويراعونها في جميع الأوقات فجاءهم ما يذهلهم عنها، فنبه بالعشار وهي النوق الحوامل التي مر على حملها عشرة أشهر وهو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة، جمع عُشراء وهي أنفس أموال العرب إذ ذاك عندهم.
قوله تعالى: ﴿وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴾ المراد بها جميع الدواب لقول الله تعالى: ﴿ وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ۚ مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ۚ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) ﴾ [سورة الأنعام، آية رقم: 38] فتحشر الدواب يوم القيامة ويشاهدها الناس، ويقتص لبعضها من بعض حتى إنه يقتص للبهيمة الجلحاء التي ليس لها قرن من البهيمة القرناء، فإذا اقتص من بعض هذه الوحوش لبعض أمرها الله تعالى فكانت ترابًا ، وإنما يفعل ذلك سبحانه لإظهار عدله بين خلقه وغير ذلك من الحكم.
قوله تعالى:﴿وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴾ البحار جمع بحر وجمعت لعظمتها وكثرتها، فإنها تمثل ثلاثة أرباع الأرض تقريبًا أو أكثر، هذه البحار العظيمة إذا كان يوم القيامة فإنها تسجر، أي تشتعل نارًا عظيمة وحينئذ تيبس الأرض ولا يبقى فيها ماء.
قوله تعالى:﴿ وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴾ أي قرن كل صاحب عمل مع نظيره، فجمع الأبرار مع الأبرار، والفجار مع الفجار، وزوج المؤمنون بالحور العين، واقترن الكافرون بالشياطين؛ كقوله تعالى:﴿وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) ﴾ [سورة الواقعة، آية رقم: 7]، وقال سبحانه: ﴿ ۞ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22)﴾ [سورة الصافات، آية رقم: 22].
قوله تعالى:﴿وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ(8)بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9﴾، أي: الطفلة المدفونة حية، وكان أحياء من العرب في الجاهلية يقتلون البنات بدفنهن في التراب خوفًا من الفقر أو العار، قال تعالى: ﴿ وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59)﴾ [سورة النحل، الآيتان رقم: 58 – 59].
أما قوله: ﴿بِأَيِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ (9)﴾ أي تُسأل الموؤدة: لم قتلت ودفنت حية؟ وفي ذلك توبيخ لقاتلها وتقريع، فإن المجني عليها إذا سئلت بحضور الجاني عن سبب الجناية كان ذلك أدعى لتبكيته وأكمل في افتضاحه.
قوله تعالى:﴿ وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) ﴾ هي صحاف الأعمال تنشر عند الحساب، أي تفتح وتبسط لتقرأ بعد أن كانت مطوية بموت صاحبها، كما قال تعالى: ﴿وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ۖ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (13)﴾ [سورة الإسراء، آية رقم: 13]، فآخذ كتابه بيمينه وآخذ كتابه بشماله أو من وراء ظهره.
قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)﴾ أي قلعت وأزيلت كما يكشط الجلد عن الذبيحة، كما قال تعالى: ﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)﴾ [سورة الأنبياء، آية رقم: 104]، وكما قال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنزِيلًا (25)﴾ [سورة الفرقان، آية رقم: 25].
قوله تعالى:﴿ وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) ﴾ أي أوقد عليها فاستعرت والتهبت التهابًا لم يكن لها قبل ذلك، ووقودها الناس أي الكفار والحجارة، حجارة من نار عظيمة شديدة الاشتعال شديدة الحرارة، هذا تسعير جهنم.
قوله تعالى:﴿وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13)﴾ أي قربت لأهلها كما قال تعالى: ﴿ وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) ﴾ [سورة الشعراء، آية رقم: 90]، ولم يذكر بروز الجحيم في مقابل إزلاف الجنة، بل ذكر بدله التسعير وهو أشد تهويلًا من ذلك.
قوله تعالى: ﴿ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ (14)﴾ أي علمت كل نفس ما أحضرت في صحائفها من عمل، خيرًا كان أو شرًّا، كما قال سبحانه: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ ﴾ [سورة آل عمران، آية رقم: 30]، وقال تعالى: ﴿يُنَبَّأُ الْإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) ﴾ [سورة القيامة، آية رقم 13].
وهذه من الأوصاف التي وصف الله بها يوم القيامة التي تنزعج لها القلوب، وتشتد من أجلها الكروب، وترتعد الفرائص، وتعم المخاوف، وتحث أولي الألباب للاستعداد لذلك اليوم، وتزجرهم عن كل ما يوجب اللوم .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.