[عودة] الكلمة الخامسة

فوائد من قصة نبي الله صالح عليه السلام

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد..
فاستكمالًا للحديث عن نبي الله صالح عليه السلام، هذه بعض الفوائد من قصته:
الفائدة الأولى في قوله تعالى: ﴿ قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)﴾ [هود: 62] ومعنى هذه الآية أن صالحًا عليه السلام كان معزَّزًا في قومه قبل أن يدعوهم إلى عبادة الله والإيمان به، فلما جاءهم بالحق سقط من أعينهم واحتقروه، فلم يصده ذلك عن دينه ولم يترك دعوته للاحتفاظ بمكانته عندهم. فينبغي للداعية إلى الله أن يعرف هذا جيِّدًا ويعلم إذا حصل له مثل هذا أن له أسوة حسنة فيمن كان قبله من الأنبياء والصالحين. وقد كان رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم يُدعى في مكة الصادق الأمين، فلما قام يدعو إلى الله تعالى قالوا: ساحر كذاب؛ لذلك قصَّ الله عليه ما جرى لمن كان قبله من الأنبياء ليثبت بها فؤاده، قال تعالى: ﴿ قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ ۖ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَٰكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَىٰ مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا ۚ وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ۚ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) ﴾ [الأنعام: 33-34].
ومما يذكر هنا قصة إسلام عبد الله بن سلام رضي اللَّه عنه سيد قومه وماذا قالوا له بعد إسلامه، فأذكر الحديث بطوله لما فيه من الفوائد. روى البخاري في صحيحه من حديث أنس رضي اللَّه عنه، قَالَ: بَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلاَمٍ مَقْدَمُ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم المَدِينَةَ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: إِنِّي سَائِلُكَ عَنْ ثَلَاثٍ لَا يَعْلَمُهُنَّ إِلَّا نَبِيٌّ، قَالَ: مَا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ؟ وَمَا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ الوَلَدُ إِلَى أَبِيهِ؟ وَمِنْ أَيِّ شَيْءٍ يَنْزِعُ إِلَى أَخْوَالِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم «خَبَّرَنِي بِهِنَّ آنِفًا جِبْرِيلُ». قَالَ: فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: ذَاكَ عَدُوُّ اليَهُودِ مِنَ المَلاَئِكَةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللَّه عليه وسلم: «أَمَّا أَوَّلُ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ فَنَارٌ تَحْشُرُ النَّاسَ مِنَ المَشْرِقِ إِلَى المَغْرِبِ، وَأَمَّا أَوَّلُ طَعَامٍ يَأْكُلُهُ أَهْلُ الجَنَّةِ فَزِيَادَةُ كَبِدِ حُوتٍ، وَأَمَّا الشَّبَهُ فِي الوَلَدِ: فَإِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَشِيَ المَرْأَةَ فَسَبَقَهَا مَاؤُهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ، وَإِذَا سَبَقَ مَاؤُهَا كَانَ الشَّبَهُ لَهَا». قَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ، إِنْ عَلِمُوا بِإِسْلَامِي قَبْلَ أَنْ تَسْأَلَهُمْ بَهَتُونِي عِنْدَكَ، فَجَاءَتِ اليَهُودُ - وفي رواية: - ودخل عبد الله البيت - فَقَالَ النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم: «أيُّ رَجُلٍ عبدُ اللَّهِ بنُ سَلَامٍ فِيكُمْ؟» قالوا: خَيْرُنَا وابنُ خَيْرِنَا، وأَفْضَلُنَا وابنُ أفْضَلِنَا، فَقَالَ النبيُّ صلى اللَّه عليه وسلم: «أرَأَيْتُمْ إنْ أسْلَمَ؟» قالوا: أعَاذَهُ اللَّهُ مِن ذلكَ، فأعَادَ عليهم فَقالوا مِثْلَ ذلكَ، فَخَرَجَ إليهِم عبدُ اللَّهِ فَقَالَ: أشْهَدُ أنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، قالوا: شَرُّنَا وابنُ شَرِّنَا، وتَنَقَّصُوهُ، قَالَ: هذا كُنْتُ أخَافُ يا رَسولَ اللَّهِ .
الفائدة الثانية:
في قوله تعالى: ﴿ كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24)﴾ [القمر: 23-24].
ومعنى أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ، أي نسلِم أمرنا جميعًا لواحد منا؛ وهذا في نظرهم منكر ليس بمعقول. وترك الحق لقلة أهله وقلة ناصريه أو اتباع الباطل لكثرة أهله هو داء في الناس من قديم، إلا أنه فشا في هذا الزمان فشوًّا منكرًًا، وذلك تصديق ما أخبر به النبي صلى اللَّه عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي اللَّه عنه عندما قال: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيباً، فَطُوبى لِلْغُرَبَاءِ» ، قالوا: ومَنِ الغرباءُ يا رسولَ اللهِ؟ قال: «أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ» .
وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز: ﴿ وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)﴾ [الأنعام: 116].
قال الفضيل بن عياض رحمه اللَّه: «اتبع طريق الهدى ولا يضرك قلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين» اللَّهم ثبتنا على الحق حتى نلقاك.
الفائدة الثالثة: في حكم الراضي كالفاعل في أحكام الآخرة وعند الله تعالى، أما أحكام الدنيا واستنباطها من قصة ثمود فقد ذكر الله في كتابه أن الذي عقر الناقة واحد فقال تعالى: ﴿ فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَىٰ فَعَقَرَ﴾ وقال أيضًا: ﴿إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا ﴾ ثم قال: ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ﴾ بصيغة الجمع، وقال النبي صلى اللَّه عليه وسلم: «﴿إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا ﴾ انْبَعَثَ لَهَا رَجُلٌ عَزِيزٌ عَارِمٌ، مَنِيعٌ فِي رَهْطِهِ، مِثْلُ أَبِي زَمْعَةَ» .
وقال تعالى: ﴿ فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ا﴾ فدلت الآيات المتقدمة والحديث أن الذي تولى عقر الناقة واحد ورضي الباقون بذلك، لذلك أضاف الفعل في بعض الآيات إليهم جميعًا فقال: ﴿ فَعَقَرُوهَا﴾ فعمهم الله بعذاب ولم ينجو منهم إلا من لم يرض بذلك وهم المؤمنون؛ ففيه دليل على أن الراضي كالفاعل، كيف لا! والرضى عمل من أعظم أعمال القلوب بل هو مقدمها، فقد روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال:«يَا أَبَا سَعِيد! مَنْ رَضِيَ بِاللَّهِ رَبًّا، وبِالْإِسْلَامِ دِينًا، وَبِمُحَمَّدٍ نَبِيًّا، وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» الحديث.
وقال الله تعالى: ﴿ إِن تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ ۖ وَلَا يَرْضَىٰ لِعِبَادِهِ الْكُفْرَوَإِن تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ۗ ﴾ فدلت الآية على أن الله سبحانه وتعالى يرضى الشكر من عباده ويحبه ويبغض الكفر منهم، وهو غني عنهم، فمن رضي ما رضيه الله ورسوله فذاك مؤمن، ومن لم يرض ما رضيه الله ورسوله، فليس من الله ورسوله في شيء. وقال تعالى: ﴿ﭩ وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا ۚ وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ ﴾ [الأنعام:112-113] فدلت الآية على أن الرضا عمل من الأعمال، ولذلك ذمهم الله عليه. فليحذر المسلم من أن يرضى ما لم يرضه الله ورسوله من أعمال الكفار والفاسقين فيدخل مدخلهم ويصيبه ما يصيبهم ويحمل من الوزر مثل ما يحملون وإن لم يعمل مثل عملهم. روى أبو داود في سننه من حديث العرس بن عميرة الكندي رضي اللَّه عنه أنَّ النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «إِذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الْأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا - وقال مرة: أنكرها - كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا وَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا» . قال ابن رجب: «من شهد الخطيئة فكرهها في قلبه كان كمن لم يشهدها إذا عجز عن إنكارها بلسانه ويده، ومن غاب عنها فرضيها، كان كمن شهدها وقدر على إنكارها ولم ينكرها، لأن الرضا بالخطايا من أقبح المحرمات ويفوت به إنكار الخطيئة بالقلب، وهو فرض على كل مسلم لا يسقط عن أحد في كل حال من الأحوال. ا.هـ .
قلت: ولا يبعد أن يخرج المسلم من الدين إذا كان ما رضي به كفرًا، وإن كان دون ذلك فهو على حسبه. وهذا المعنى هو الذي أردنا الإشارة إليه والتحذير منه.
وفي معنى ما تقدم ما رواه ابن ماجه في سننه من حديث جرير رضي اللَّه عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال: «مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي هُمْ أَعَزُّ مِنْهُمْ وَأَمْنَعُ لاَ يُغَيِّرُونَ إِلا عَمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ» . فهؤلاء قوم رضوا بالمعاصي أن تعمل بينهم وهم يستطيعون أن يغيروها فلم يغيروا فعمهم العذاب وإن كانوا لم يعملوها لرضاهم بها.
أما ما يتعلق بأحكام الدنيا فلا تجري إلا على من أظهر الفعل والقول، فيقام الحد على الزاني والقاذف والقاتل ولا يقام على من رضي بذلك، لأن الرضى من أعمال القلوب التي لا يعلم خفاياها إلا خالقها، والله تعالى أعلم. والمسألة تحتاج إلى بسط أكثر وإنما قصدت الإشارة، والله الموفق.
وفي رواية: «لَا تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ...» وفيها: «ثُمَّ تَقَنَّعَ بِرِدَائِهِ وَهُوَ عَلَى الرَّحْلِ» . روى الإمام أحمد في مسنده من حديث ابن عمر قال: نزل رسول الله صلى اللَّه عليه وسلم بالناس عام تبوك، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود، فاستقى الناس من الآبار التي كانت يشرب منها ثمود، فعجنوا منها ونصبوا لها القدور باللحم، فأمرهم النبي صلى اللَّه عليه وسلم فأهراقوا القدور، وعلفوا العجين الإبل، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا، وقال: «إِنِّي أَخْشَى أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَهُمْ، فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِم» .
وبقي بعض الفوائد لعلي أستكملها في كلمة قادمة.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.