[عودة] الكلمة التاسعة : نبي الله وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام
نبي الله وخليل الرحمن إبراهيم عليه السلام
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد..
«فلقد ذكر الله في كتابه العزيز قصة إبراهيم عليه السلام في مواضع عدة، لما فيها من الدروس والعبر. وإبراهيم بالسُريانية معناه: أب رحيم، واللهسبحانه وتعالى جعل إبراهيم الأب الثالث للعالم.
فإن أبانا الأول آدم عليه السلام، والأب الثاني نوح عليه السلام، وأهل الأرض كلهم من ذريته كما قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ ] الصافات:77]، وبهذا يتبين كذب المفترين من العجم الذين يزعمون أنهم لا يعرفون نوحًا عليه السلام، ولا ولده، ولا ينتسبون إليه، وينسبون ملوكهم من آدم إليهم، ولا يذكرون نوحًا عليه السلام في أنسابهم، وقد أكذبهم الله عز وجل في ذلك.
فالأب الثالث وعمود العالم، وإمام الحنفاء الذي اتخذه الله خليلًا، وجعل النبوة والكتاب في ذريته، ذاك خليل الرحمٰن، ولما رأى النبيﷺ الصور في البيت لم يدخل حتى أمر بها فمحيت، ورأى إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام بأيديهما الأزلام فقال: «قَاتَلَهُمُ اللَّهُ، وَاللَّهِ إِنِ اسْتَقْسَمَا بِالأَزْلَامِ قَطٌّ» .
ولم يأمر الله رسوله أن يتبع ملة أحد من الأنبياء غيره، قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ۖ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ ]النحل:123]، وأمر أمته بذلك فقال تعالى: ﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ ۚ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَٰذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ۚ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ ۖ فَنِعْمَ الْمَوْلَىٰ وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ ]الحج:78].
وكان رسول اللهﷺ إذا أصبح وإذا أمسى يقول: «أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الإِسْلَامِ، وَعَلَى كَلِمَةِ الإِخْلَاصِ، وَعَلَى دِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍﷺ، وَعَلَى مِلَّةِ أَبِينَا إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» ، وتأمل هذه الألفاظ كيف جعل الفطرة للإسلام، فإنه فطرة الله التي فطر الناس عليها، وكلمة الإخلاص هي شهادة أن لا إله إلا الله والملة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام، فإنه صاحب الملة وهي التوحيد، وعبادة الله وحده لا شريك له، ومحبته فوق كل محبة، والدين للنبيﷺ وهو دينه الكامل، وشرعه التام الجامع لذلك كله.
وسماه اللهسبحانه إمامًا، وأمة، وقانتًا، وحنيفًا، قال تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ ]البقرة:124]، فأخبرسبحانه أنه جعله إمامًا للناس، وأن الظالم من ذريته لا ينال رتبة الإمامة، والظالم هو المشرك، وأخبر سبحانه أن عهده بالإمامة لا ينال من أشرك به، قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِّأَنْعُمِهِ ۚ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121)﴾ ]النحل:120-121].
فالأمة هو: القدوة المعلم للخير، والقانت: المطيع لله تعالى، الملازم لطاعته، والحنيف: المقبل على الله تعالى المعرض عما سواه.
والمقصود: أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام هو أبونا الثالث، وهو إمام الحنفاء، وتسميه أهل الكتاب عمود العالم، وجميع أهل الملل متفقة على تعظيمه، وتوليه، ومحبته، وكان خير بنيه سيد ولد آدم محمدﷺ يُجله، ويعظمه، ويبجله، ويحترمه.
ففي صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِﷺ : «ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ» .
وفي الصحيحين من حديث ابن عباس قال: قام فينا النبيﷺ يخطب فقال:«إِنَّكُمْ مَحْشُورُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا، ﴿يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ۚ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ۚ وَعْدًا عَلَيْنَا ۚ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾]الأنبياء:104]، وَإِنَّ أَوَّلَ الْخَلائِقِ يُكْسَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِبْرَاهِيمُ الخَلِيلُ» .
وكان رسول اللهﷺ أشبه الخلق به، كما في الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله أن النبيﷺ قال: «رَأَيْتُ إِبْرَاهِيمَ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِذَا أَقْرَبُ مَنْ رَأَيْتُ بِهِ شَبَهًا صَاحِبُكُمْ -يَعْنِي نَفْسَهُﷺ» . وفي لفظ آخر: «فَانْظُرُوا إِلَى صَاحِبِكُمْ» .
وكانﷺ يعوذ أولاد ابنته حسنًا وحسينًاﮏ بتعويذ إبراهيم لإسماعيل وإسحاق صلى الله عليهم وسلم، ففي صحيح البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنه قال: كَانَ النَّبِيُّﷺ يُعَوِّذُ الْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، وَيَقُولُ: «إِنَّ أَبَاكُمَا كَانَ يُعَوِّذُ بِهِمَا إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّةِ مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ وَهَامَّةٍ وَمِنْ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ» .
وكان إبراهيمﷺ أول الناس ضيَّف الضيف، وأول الناس اختتن... وأول الناس رأى الشيب، فقال: «يَا رَبِّ! مَا هَذَا؟ فَقَالَ اللَّه تبارك وتعالى: وقارٌ يا إبراهيم، فَقَالَ: رَبِّ زِدْنِي وَقَارًا» .
وقد شهد الله سبحانه بأنه وفى ما أُمر به، فقال تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّ﴾ ]النجم:37]، قال ابن عباس: وفى جميع شرائع الإسلام، ووفى ما أُمر به من تبليغ الرسالة.
وقال تعالى: ﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ۖ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا ۖ قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي ۖ قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ ]البقرة:124]، فلما أتم ما أُمر به من الكلمات، جعله الله إمامًا للخلائق يأتمون به، وكانﷺ كما قيل: قلبه للرحمٰن، وولده للقربان، وبدنه للنيران، وماله للضيفان.
ولما اتخذه ربه خليلًا، والخلة هي كمال المحبة، وهي مرتبة لا تقبل المشاركة والمزاحمة، وكان قد سأل ربه أن يهب له ولدًا صالحًا، فوهب له إسماعيل، فأخذ هذا الولد شعبة من قلبه، فامتحنه سبحانه بذبحه ليظهر سر الخلة في تقديمه محبة خليله على محبة ولده، فلما استسلم لأمر ربه، وعزم على فعله، وظهر سلطان الخلة في الإقدام على ذبح الولد إيثارًا لمحبة خليله على محبته، نسخ الله تعالى ذلك عنه، وفداه بالذبح العظيم؛ لأن المصلحة في الذبح كانت ناشئة من العزم وتوطين النفس على ما أُمر به، فلما حصلت هذه المصلحة عاد الذبح في نفسه مفسدة، فنسخ في حقه، وصارت الذبائح والقرابين من الهدايا والضحايا سنة في اتباعه إلى يوم القيامة.
وهو الذي فتح للأمة باب مناظرة المشركين وأهل الباطل وكسر حججهم، وقد ذكر الله سبحانه مناظرته في القرآن مع إمام المعطلين، ومناظرته مع قومه المشركين، وكسر حجج الطائفتين بأحسن مناظرة، وأقربها إلى الفهم وحصول العلم، قال تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ۘ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ۗ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ ﴾ ]الأنعام:83].
وقال ابن عباسﮏ في قوله تعالى: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ ]آل عمران:173]، قالها إبراهيم حين أُلقي في النار، وقالها محمدﷺ حين قالوا: ﴿إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ ، وقال ابن عباس: «كان آخر قول إبراهيم حين أُلقي في النار: حسبي الله ونعم الوكيل» .
وهو الذي بنى بيت الله، وأذن في الناس بحجه، فكل من حجه واعتمره حصل لإبراهيم من مزيد ثواب الله تعالى وإكرامه بعدد الحجاج والمعتمرين، قال تعالى: ﴿وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾ ]البقرة:125]. قال ابن عباس: يثوبون إليه، ولا يقضون منه وطرًا، ﴿ﯣ ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ﴾ فأمر نبيهﷺ وأمته أن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلَّى تحقيقًا للاقتداء به، وإحياء آثارهﷺ.
«ومناقب هذا الإمام الأعظم، والنبي الأكرم أجل من أن يحيط بها كتاب، وإن مد الله في العمر أفردنا كتابًا في ذلك يكون قطرة في بحر فضائله، أو أقل، جعلنا الله تعالى ممن ائتم به، ولا جعلنا ممن عدل عن ملته بمنه وكرمه» .
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.