[عودة] الكلمة الثانية والأربعون: تأملات في قوله تعالى: {إن تبدوا الصدقات فنعما هي} [البقرة: 271]
الكلمة الثانية والأربعون: تأملات في قوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة: 271]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
قال الله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [البقرة: 271].
قال القرطبي: ذهب جمهور المفسِّرين إِلى أن هذه الآية في صدقة التطوع؛ لأن الإخفاء فيها أفضل من الإِظهار، وكذلك سائر العبادات الإِخفاء أفضل في تطوعها لانتفاء الرياء عنها، وليس كذلك الواجبات (¬1). اهـ.
قال ابن كثير: وفي الآية دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها، لأنه أبعد عن الرياء، إلا أن يترتب على الإِظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به، فيكون أفضل من هذه الحيثية وإلا فالإسرار أفضل (¬2). اهـ.
قال القرطبي: وهذا - أي إظهار الصدقة - لمن قويت حالته وحسنت نيته وأمن من الرياء، وأما من ضعف عن هذه الرتبة فالسر له أفضل. اهـ (¬3).
وقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}.
قال ابن القيم: وتأمل تقييده تعالى الإِخفاء بإيتاء الفقراء خاصة، ولم يقل: وإن تخفوها فهو خير لكم، فإن من الصدقة ما لم يمكن إخفاؤه، كتجهيز جيش، وبناء قنطرة، وإجراء نهر، أو غير ذلك، وأما إيتاؤها الفقراء ففي إخفائها من الفوائد الستر عليه، وعدم تخجيله بين الناس، وإقامته مقام الفضيحة وأن يرى الناس أن يده هي اليد السفلى، وأنه لا شيء له؛ فيزهدون في معاملته ومعاوضته؛ وهذا قدر زائد من الإِحسان إليه لمجرد الصدقة مع تضمنه الإِخلاص .... إلى آخر ما قال (¬4).
وقد مدح النبي - صلى الله عليه وسلم - صدقة السر وأثنى على فاعلها، وأخبر أنه أحد السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم القيامة، ولهذا جعله سبحانه خيرًا للمنفق، وأخبر أنه يكفر عنه بذلك الإِنفاق من سيئاته؛ ولا تخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم فإنَّه بما تعلمون خبير.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ»، وذكر منهم: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لاَ تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ» (¬5).
وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - صنفًا آخر يستحق ذلك التكريم، وهو الذي ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه.
روى أبو داود في سننه من حديث معاذ - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الْجَاهِرُ بِالْقُرْآنِ كَالْجَاهِرِ بِالصَّدَقَةِ، وَالْمُسِرُّ بِالْقُرْآنِ كَالْمُسِرِّ بِالصَّدَقَةِ» (¬6).
وروى الطبراني في المعجم الصغير من حديث عبد الله بن جعفر: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «صَدَقَةُ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ» (¬7).
قال العز بن عبد السلام في تفاوت فضل الإِسرار والإِعلان بالطاعات: فإن قيل: هل الإخفاء أفضل من الإعلان لما فيه من اجتناب الرياء أم لا؟ فالجواب أن الطاعات ثلاثة أضرب: أحدها ما شُرِعَ مجهورًا كالأذان والإِقامة والتكبير والجهر بالقراءة في الصلاة؛ والخطب الشرعية، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ وإقامة الجمعة والجماعات، وغير ذلك، فهذا لا يمكن إخفاؤه، فإن خاف فاعله الرياء جاهد نفسه في دفعه إلى أن تحضره نية الإِخلاص، فيأتي به مخلصًا كما شرع؛ فيحصل على أجر ذلك الفعل، وعلى أجر المجاهد لما فيه من المصلحة المتعدية.
الثاني: ما يكون إسراره خيرًا من إعلانه، كإسرار القراءة في الصلاة، وإسرار أذكارها، فهذا إسراره خيرٌ من إعلانه.
الثالث: ما يخفى تارة ويظهر أُخرى، كالصدقات، فإن خاف على نفسه الرياء، أو عُرف ذلك منه كان الإِخفاء أفضل من الإِبداء لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 271] إلى آخر ما قال (¬8).
ومما تقدّم من الآيات والأحاديث يتبيَّن أنه ينبغي للمؤمن أن يخفي أعماله الصالحة عن الخلق، إلا التي يشرع إعلانها، فإن الذي يعمل لأجله لا تخفى عليه أعماله، وسيجزيه عليها أوفر الجزاء، قال تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة: 105]، وليعلم العبد أنه لا ينفعه اطلاع الناس على ما يعمله؛ بل قد يضره إذا أحب ذلك.
وقد كان هدي السلف الصالح الحرص على إِخفاء الأعمال، وذلك لكمال إخلاصهم وصفاء نياتهم.
روى أبو داود في سننه من حديث أبي قتادة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر: «مَرَرْتُ بِكَ وَأَنْتَ تُصَلِّي تَخْفِضُ صَوْتَكَ» فَقَالَ: إِنِّي قَدْ أَسْمَعْتُ مَنْ نَاجَيْتُ يَا رَسُولَ اللهِ (¬9).
ونقل الذهبي في سير أعلام النبلاء أن علي بن الحسين كان يحمل الخبز بالليل على ظهره، يتبع به المساكين في الظلمة ويقول: إن الصدقة في سواد الليل تطفئ غضب الرب.
وقال محمد بن إسحاق: كان ناس من المدينة يعيشون لا يدرون من أين معاشهم، فلما مات علي بن الحسين فقدوا ذلك الذي كانوا يؤتون بالليل، وقال بعضهم: ما فقدنا صدقة السر حتى توفي علي (¬10).
ونقل المنذر بن سعيد عن جارية للربيع أنه كان يدخل عليه الداخل وفي حجره المصحف فيغطيه (¬11)، وذكر ابن الجوزي أن داود بن أبي هند صام عشرين سنة ولم يعلم به أهله، كان يأخذ غداءه ويخرج إلى السوق فيتصدق به في الطريق، فأهل السوق يظنون أنه قد أكل في البيت، وأهل البيت يظنون أنه قد أكل في السوق.
قال الشافعي رحمه الله: وددت أن الناس تعلموا هذا العلم ولم ينسب إليَّ منه شيء (¬12).
وقال الحسن رحمه الله: إن كان الرجل ليجمع القرآن وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليفقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوار وما يشعرون به، ولقد أدركت أقوامًا ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر فيكون علانية أبدًا، لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت، إن كان إلا همسًا بينهم وبين ربهم، وذلك أن الله تعالى يقول: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] (¬13).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) تفسير القرطبي (3/ 332).
(¬2) تفسير ابن كثير (1/ 322).
(¬3) تفسير القرطبي (3/ 333).
(¬4) تفسير ابن القيم (ص170).
(¬5) صحيح البخاري برقم (1423)، وصحيح مسلم برقم (1031).
(¬6) سنن أبي داود برقم (1333) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 248) برقم (1184).
(¬7) المعجم الصغير للطبراني (2/ 95) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع رقم (3759).
(¬8) قواعد الأحكام (1/ 152).
(¬9) سنن أبي داود برقم (1329) وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 247) برقم (1180).
(¬10) سير أعلام النبلاء (4/ 683).
(¬11) سير أعلام النبلاء (4/ 260).
(¬12) جامع العلوم والحكم (1/ 310).
(¬13) تفسير ابن كثير (2/ 221).