[عودة] الكلمة الثالثة والثلاثون: صلاة أهل الأعذار

الكلمة الثالثة والثلاثون: صلاة أهل الأعذار
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
فإن من رحمة الله بعباده وتيسيره عليهم أن رفع عنهم الحرج في دينهم، قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]. وقال تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286]. وقال تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16]. وقال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمرٍ، فَاتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (¬1).
ومن هؤلاء الذين خفف الله عنهم في طهارتهم وصلاتهم: أصحاب الأعذار كالمريض، والمسافر، والخائف، ليتمكنوا من عبادة ربهم من غير حرج ولا مشقة.
أولًا: المريض
1 - يجب عليه أن يتوضأ من الحدث الأصغر (نواقض الوضوء)، وأن يغتسل من الحدث الأكبر (موجبات الغسل).
2 - يجب عليه أن يزيل ما على السبيلين من النجاسة بالماء - كالبول والغائط - قبل الوضوء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستنجي بالماء (¬2)، والاستجمار بالحجارة أو ما يقوم مقامها يقوم مقام الاستنجاء بالماء، ويقوم مقام الحجارة ما في معناها من كل جامد طاهر ليس له حرمة كالخشب، والخرق، والمناديل وكل ما أنقى به فهو كالحجارة على الصحيح (¬3)، لقوله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا ذَهَبَ أَحَدُكُمْ إِلَى الغَائِطِ، فَلْيَذْهَبْ مَعَهُ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارِ يَسْتَطِيبُ بِهِنَّ، فَإِنَّهَا تُجْزِئُ عَنْهُ» (¬4).
ولا بد من الاستجمار من ثلاثة أحجار أو ما يقوم مقامها فأكثر، لحديث سلمان رضي الله عنه أنه قال: نَهَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِغَائِطٍ أَوْ بِبَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ (¬5) أَوْ بِعَظْمٍ (¬6). والأفضل أن تكون وترًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنِ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» (¬7).
فإن لم تكف ثلاثة أحجار زاد رابعًا، وخامسًا، حتى يُنقي المحل، والأفضل أن يستجمر الإنسان بالحجارة ثم يتبعها الماء، لأن الحجارة تزيل عين النجاسة والماء يطهر المحل فيكون أبلغ في الطهارة، وهو مخير فيها أو الجمع بينها وهو الأفضل، والاستنجاء يكون من الخارج من السبيلين؛ أما النوم، والريح، وأكل لحم الإبل، ومس الفرج، فلا يستنجي منها.
3 - إذا كان المريض لا يستطيع الحركة، فإنه يوضئه شخص آخر، وإذا كان عليه حدث أكبر ساعده في الاغتسال.
4 - إذا كان المريض لا يستطيع أن يتطهر بالماء لخوفه تلف النفس، أو تلف عضو، أو حدوث مرض، أو بعجزه، أو خوف زيادة المرض، أو تأخر برئه، فإنه يتيمم لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء].
وصفة التيمم: أن يضرب التراب ضربة واحدة ثم يمسح وجهه بباطن أصابعه، ويمسح كفيه براحتيه، ويعمم الوجه والكفين بالمسح، وقد وردت هذه الصفة في الصحيحين من حديث عمار بن ياسر (¬8)، قال تعالى: وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الْغَآئِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:43].
5 - فإن لم يستطع أن يتيمم بنفسه، فإنه ييممه من عنده من المرافقين.
6 - من به جروح، أو كسر، أو مرض يضره استعمال الماء، فإنه يتيمم سواء كان محدثًا حدثًا أصغر، أو أكبر، لكن لو أمكنه أن يغسل الصحيح من جسده أو أعضائه وجب عليه ذلك، وتيمم للباقي لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
7 - إذا كان في بعض أعضاء الطهارة جرح يستطيع أن يغسله بالماء غسله، فإن كان الغسل بالماء يؤثر عليه مسحه بالماء مسحًا، فإن كان المسح يؤثر عليه أيضًا فإنه يشد عليه جبيرة أو لزقة ويمسح عليها، فإن عجز فحينئذ تيمم عنه بعد الطهارة، أما إذا كان الجرح مستورًا بجبس، أو لزقة، أو جبيرة، أو ما أشبه ذلك، ففي هذه الحال يمسح على الساتر ويغنيه عن الغسل. ولا يشترط لبس الجبيرة على طهارة على القول الراجح، وليس للمسح على الجبيرة توقيت، لأن مسحها لضرورة فيقدر بقدرها، ويمسح عليها في الحدث الأكبر والأصغر، والصواب أنه إذا مسح على العضو يكفيه عن التيمم، فلا يجمع بين المسح والتيمم، إلا إذا كان هناك عضو آخر لم يستطع المسح عليه (¬9).
8 - إذا تيمم لصلاته وبقي على طهارته إلى وقت الصلاة الأخرى، فإنه يصليها بالتيمم الأول، ولا يعيد التيمم للصلاة الثانية، لأنه لم يزل على طهارته، ولم يحصل ما يبطلها من نواقض الطهارة، ولم يجد الماء، لأن التيمم لا يبطل إلا بكل ما يبطل الوضوء، وهذا على الصحيح من قولي العلماء (¬10).
9 - يجب على المريض أن يطهر بدنه، وثيابه وموضع صلاته من النجاسات، فإن عجز عن شيء من ذلك، ولم يجد من يقوم بتطهير النجاسة صلى على حسب حاله، وصلاته صحيحة، ولا إعادة عليه لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
10 - لا يجوز للمريض أن يؤخر الصلاة عن وقتها من أجل العجز عن الطهارة، بل يتطهر بقدر ما يستطيع، ويطهر بدنه، وثوبه، والبقعة التي يصلي عليها، فإن عجز عن استعمال الماء تيمم، فإن عجز عن التيمم سقطت عنه الطهارة، وصلى على حسب حاله (¬11).
11 - المريض المصاب بسلس البول، أو استمرار خروج الدم، أو الريح ولم يبرأ بمعالجته، عليه أن يتوضأ لكل صلاة بعد دخول وقتها ويغسل ما يصيب بدنه، وثوبه، أو يجعل للصلاة ثوبًا طاهرًا إن تيسر له ذلك، ويحتاط لنفسه احتياطًا يمنع انتشار البول، أو الدم في ثوبه، أو جسمه، أو مكان صلاته، وله أن يفعل في الوقت ما تيسر من صلاة، وقراءة في المصحف حتى يخرج الوقت، فإذا خرج الوقت وجب عليه أن يعيد الوضوء، أو التيمم إن كان لا يستطيع الوضوء، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ المُستَحَاضَةَ أَن تَتَوَضَّأَ لِوَقتِ كُلِّ صَلَاةٍ، قال الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}.
كيفية صلاة المريض:
1 - يجب على المريض الذي لا يخاف زيادة مرضه أن يصلي الفريضة قائمًا، لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين} [البقرة:238].
2 - إن قدر المريض على القيام بأن يتكئ على عصا، أو يستند إلى حائط، أو يعتمد على أحد جانبيه، لزمه القيام، لحديث وابصة رضي الله عنه، عن أم قيس رضي الله عنها: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أَسَنَّ وَحَمَلَ اللَّحْمَ، اتَّخَذَ عَمُودًا فِي مُصَلَّاهُ يَعْتَمِدُ عَلَيْهِ (¬12). ولأنه قادر على القيام من غير ضرر، لحديث عمران بن حصين رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» (¬13).
3 - إن قدر المريض على القيام إلا أنه يكون منحيًا على هيئة الراكع كالأحدب، أو الكبير الذي انحنى ظهره وهو يستطيع القيام، لزمه القيام لحديث عمران بن حصين.
4 - المريض الذي يقدر على القيام لكنه يعجز عن الركوع أو السجود لا يسقط عنه القيام، وعليه أن يصلي قائمًا ويومئ بالركوع قائمًا إن عجز عنه، وإن لم يمكنه أن يحني ظهره حنى رقبته، وإن تقوس ظهره فصار كأنه راكع زاد في انحنائه قليلًا، ثم يجلس فيومئ بالسجود جالسًا إن عجز عنه، ويقرب وجهه إلى الأرض في السجود أكثر ما يمكنه، لقول الله تعالى: {وَقُومُوا لِلّهِ قَانِتِين} [البقرة]. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين: «صَلِّ قَائِمًا» (¬14). ولأن القيام ركن قدر عليه، فلزمه الإتيان به.
5 - المريض الذي يزيد القيام في مرضه، أو يشق عليه مشقة شديدة، أو يضره يصلي قاعدًا، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}. ولحديث عمران بن حصين رضي الله عنه «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا» (¬15). ولحديث أنس رضي الله عنه قال: سَقَطَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ فَرَسٍ، فَجُحِشَ شِقُّهُ الأَيْمَنُ، فَدَخَلْنَا عَلَيْهِ نَعُودُهُ، فَحَضَرَتِ الصَّلَاةُ، فَصَلَّى بِنَا قَاعِدًا (¬16). وقد أجمع العلماء على أن من لا يطيق القيام، له أن يصلي جالسًا (¬17).
6 - الأفضل للمريض إذا صلى جالسًا أن يكون متربعًا في موضع القيام، وإذا ركع يركع وهو متربع على الصحيح، لأن الراكع قائم لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: رَأَيتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي مُتَرَبِّعًا (¬18). والسنة له أن يجعل يديه على ركبتيه في حال الركوع، أما في حال السجود فالواجب أن يسجد على الأرض، فإن لم يستطع وجب عليه أن يجعل يديه على الأرض وأومأ بالسجود، لما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ: عَلَى الْجَبْهَةِ، وَأَشَارَ بِيَدِهِ عَلَى أَنْفِهِ، وَالْيَدَيْنِ، والرُكْبَتَينِ، وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ» (¬19). فإن لم يستطع جعل يديه على ركبتيه، وأومأ بالسجود، وجعله أخفض من الركوع، ومن عجز عن ذلك فصلى على الكرسي، فلا حرج في ذلك، لقوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} (¬20).
7 - إن عجز المريض عن الصلاة قاعدًا، صلى على جنبه مستقبل القبلة بوجهه، والأفضل أن يصلي على جنبه الأيمن، لحديث عمران بن حصين وفيه: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ» (¬21). ولحديث عائشة رضي الله عنها قالت: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُعجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ، وَتَرَجُّلِهِ، وَطُهُورِهِ، وَفِي شَأنِهِ كُلِّهِ (¬22).
8 - فإن عجز المريض عن الصلاة على جنبه، صلى مستلقيًا رجلاه إلى القبلة، لحديث عمران بن حصين: «صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ، فإن لم تَستَطِعْ صلى مستلقيًا» (¬23). وإن قال ثقات من علماء الطب: إن صليت مستقليًا أمكن مداواتك، وإلا فلا، فله أن يصلي مستلقيًا (¬24).
9 - فإن عجز المريض عن الصلاة إلى القبلة، ولم يوجد من يوجهه إليها، صلى على حسب حاله، لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
10 - فإن عجز عن الصلاة مستلقيًا، صلى على حسب حاله على أي حال كان، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
11 - فإن عجز المريض عن جميع الأحوال السابقة، صلى بقلبه فيكبر ويقرأ، وينوي الركوع، والسجود، والقيام، والقعود بقلبه، فإن الصلاة لا تسقط عنه ما دام عقله ثابتًا، بأي حال من الأحوال، للأدلة السابقة (¬25).
12 - إذا قدر المريض في أثناء صلاته على ما كان عاجزًا عنه من قيام أو قعود، أو ركوع، أو سجود، أو إيماء، انتقل إليه وبنى على ما مضى من صلاته، وهكذا لو كان قادرًا فعجز أثناء الصلاة أتم صلاته على حسب حاله، لأن ما مضى من الصلاة كان صحيحًا فبنى عليه كما لو لم يتغير حاله (¬26).
13 - إن عجز المريض عن السجود على الأرض، فإنه يومئ بالسجود في الهواء، ولا يتخذ شيئًا يسجد عليه، لحديث جابر رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَادَ مَرِيضًا، فَرَأَىهُ يُصَلِّي عَلَى وِسَادَةٍ، فَأَخَذَهَا فَرَمَى بِهَا، فَأَخَذَ عُودًا لِيُصَلِّيَ عَلَيهِ، فَأَخَذَهُ فَرَمَى بِهِ، وَقَالَ: «صَلِّ عَلَى الأَرضِ إِنِ استَطَعتَ، وَإِلَّا فَأَومِئْ إِيمَاءً، وَاجْعَلْ سُجُودَكَ أَخفَضَ مِن رُكُوعِكَ» (¬27).
14 - يجب على المريض أن يصلي كل صلاة في وقتها، ويفعل كل ما يقدر عليه مما يجب فيها، فإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها، فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، إما جمع تقديم بحيث يقدم العصر مع الظهر، والعشاء مع المغرب، وإما جمع تأخير بحيث يؤخر الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء حسبما يكون أيسر له؛ أما صلاة الفجر فلا تجمع مع ما قبلها ولا بعدها، فقد ثبت أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَ حَمْنَةَ بِنتَ جَحشٍ رضي الله عنها - لَمَّا كَانَت مُستَحَاضَةً - بِتَأخِيرِ الظُّهرِ وَتَعجِيلِ العَصرِ، وَتَأخِيرِ المَغرِبِ وَتَعجِيلِ العِشَاءِ (¬28).
15 - ولا يجوز ترك الصلاة بأي حال من الأحوال، بل يجب على المكلف أن يحرص على الصلاة أيام مرضه أكثر من حرصه عليها أيام صحته، فلا يجوز له ترك المفروضة حتى يفوت وقتها ولو كان مريضًا ما دام عقله ثابتًا، بل عليه أن يؤديها في وقتها حسب استطاعته؛ فإذا تركها عامدًا وهو عاقل عالم بالحكم الشرعي، مكلف يقوى على أدائها ولو إيماء فهو آثم، وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى كفره بذلك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ، فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ» (¬29).
16 - إذا نام المريض عن صلاته، أو نسيها وجب عليه أن يصليها حال استيقاظه، أو ذكره لها، ولا يجوز له تركها إلى دخول وقت مثلها ليصليها فيه، لما جاء في الصحيحين من حديث أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا، فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إِذَا ذَكَرَهَا» (¬30). ويقضي الصلاة المغمى عليه ثلاثة أيام فأقل، لأنه يلحق بالنائم، أما إذا كانت المدة أكثر من ذلك، فلا قضاء عليه، لأنه يلحق بالمجنون لجامع زوال العقل (¬31).
كيفية صلاة المسافر:
1 - يصلي المسافر الصلاة الرباعية قصرًا فيصلي الظهر، والعصر، والعشاء ركعتين ما دام مسافرًا، أما صلاة المغرب فيصليها ثلاثًا سفرًا، وحضرًا، وهكذا صلاة الفجر يصليها ركعتين سفرًا، وحضرًا، وكذلك سنة الفجر قبلها ركعتين، لِأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَم يَكُنْ يَدَعُهُمَا أَبَدًا (¬32). ويصلي الوتر كذلك، لحديث ابن عمر قال: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي فِي السَّفَرِ عَلَى رَاحِلَتِهِ حَيثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ، يُومِئُ إِيمَاءً، صَلَاةَ اللَّيلِ إِلَّا الفَرَائِضَ، وَيُوتِرُ عَلَى رَاحِلَتِهِ (¬33). أما السنن الرواتب، فالسنة أن لا يصليها في السفر، لحديث ابن عمر قال: صَحِبتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي السَّفَرِ، فَلَم يَزِدْ عَلَى رَكعَتَينِ حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ (¬34).
أما التطوع المطلق فمشروع في الحضر، والسفر مطلقًا: مثل صلاة الضحى، وصلاة الليل. قال النووي: اتفق العلماء على استحباب النوافل المطلقة في السفر (¬35).
الصلاة في السفينة والطائرة والقطار:
1 - تصح صلاة الفرض في السفينة والقطار قائمًا عند القدرة. روى البيهقي في سننه من حديث عبد الله بن أبي عتبة قال: صَحِبتُ جَابِرَ بنَ عَبدِ اللَّهِ وَأَبَا سَعِيدٍ الخُدرِيَّ وَأَبَا هُرَيرَةَ فِي سَفِينَةٍ، فَصَلَّوا قِيَامًا فِي جَمَاعَةٍ أَمَّهُم بَعضُهُم، وَهُم يَقدِرُونَ عَلَى الجُدِّ (¬36) (¬37).
قال الشوكاني: «المراد أنهم يقدرون على الصلاة في البر وقد صحت صلاتهم في السفينة مع اضطرابها، وفيه جواز الصلاة في السفينة وإن كان الخروج إلى البر ممكنًا (¬38) اهـ. ولا تصح صلاة الفرض في السفينة قاعدًا لقادر على القيام، فإن عجز عن القيام صلى جالسًا، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، فيصلي على حسب حاله، ويأتي بما يقدر عليه من القيام وغيره على ما تقدم، ويصلون فيها جماعة على حسب استطاعتهم، ويستقبلون القبلة في الفرض، وكلما انحرفت السفنية عن القبلة اتجهوا إليها» (¬39).
2 - صلاة الفريضة في الطائرة صحيحة فحكمها كحكم السفينة، ويجب على المسلم أن يفعل ما يجب عليه في الصلاة من القيام بالأركان، والواجبات والشروط مثل الطهارة، واستقبال القبلة، ونحو ذلك؛ وإذا كان لا يستطيع القيام بذلك، فلا يصلي بالطائرة، بل ينتظر، إلا إذا علم أن الهبوط سيكون بعد خروج الوقت، وكانت الصلاة التي أدركته في الجو لا يمكن جمعها مع ما بعدها مثل العصر، والفجر، ففي هذه الحال يصليها ولا يؤخرها عن وقتها، فيصليها كما تقدم في صفة صلاة المريض، أما إذا أمكن الجمع سواء جمع تقديم أو تأخير، فإنه يفعله.
3 - الصلاة في السيارة إذا كانت كبيرة وفيها مكان للصلاة يستطيع أن يصلي الفرض قائمًا مع استقبال القبلة، وأداء الشروط، والواجبات فلا حرج كما في السفينة، والطائرة، أما إذا كان لا يستطيع، فإنه لا يصلي في السيارة، إلا إذا لم يستطع الخروج منها، وخشي خروج الوقت، صلى على حسب حاله، أما الصلاة على الرواحل كالإبل، والخيل ونحو ذلك، فلا تصح إلا عند خشيته التأذي بمطر، أو وحل إذا نزل على الأرض، ولكن إذا خشي على نفسه عند النزول من عدو، أو فوات رفقة، فإن عليه أن يستقبل القبلة إن قدر على ذلك، وعليه أن يركع ويجعل سجوده أخفض من ركوعه، لقول الله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: 16].
4 - صلاة النافلة في السفر تصح على جميع وسائل النقل، سواء كانت من السفن، أو الطائرات، أو السيارات .. ونحو ذلك، لكن الأفضل للمصلِّي أن يستقبل القبلة عند تكبيرة الإحرام، ثم يصلي حيث توجهت به السفينة أو الطائرة، أو السيارة، فقد كَانَ صلى الله عليه وسلم يُصَلِّي عَلَى الرَّاحِلَةِ حَيثُ تَوَجَّهَتْ بِهِ (¬40) (¬41).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) صحيح البخاري برقم (7288)، وصحيح مسلم برقم (1337).
(¬2) صحيح البخاري برقم (150)، وصحيح مسلم برقم (271).
(¬3) المغني، لابن قدامة (1/ 213).
(¬4) سنن أبي داود برقم (40)، وحسنه الألباني في صحيح أبي داود (1/ 10) برقم 31.
(¬5) الرجيع: الروث، والعذرة.
(¬6) صحيح البخاري برقم (162)، وصحيح مسلم برقم (237).
(¬7) صحيح البخاري برقم (161)، وصحيح مسلم برقم (237).
(¬8) صحيح البخاري برقم (347)، وصحيح مسلم برقم (368).
(¬9) مجموع فتاوى ومقالات للشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله (12/ 240)، وفتاوى الشيخ ابن عثيمين (11/ 155 - 172).
(¬10) فتاوى اللجنة الدائمة (5/ 344) برقم 6420.
(¬11) مجموع فتاوى ومقالات الشيخ ابن باز (12/ 239)، وفتاوى الشيخ ابن عثيمين (11/ 156).
(¬12) سنن أبي داود برقم (948)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 178) برقم 835.
(¬13) صحيح البخاري برقم 1117.
(¬14) سبق تخريجه.
(¬15) سبق تخريجه.
(¬16) صحيح البخاري برقم (689)، وصحيح مسلم برقم (411).
(¬17) المغني، لابن قدامة (2/ 570).
(¬18) سنن النسائي برقم (1661)، وصححه الألباني في صحيح النسائي (1/ 365) برقم 1567.
(¬19) صحيح البخاري برقم (812)، وصحيح مسلم برقم (490).
(¬20) المغني لابن قدامة (2/ 572)، ومجموع فتاوى الشيخ ابن باز (12/ 242 - 247)، وفتاوى الشيخ ابن عثيمين (11/ 329).
(¬21) سبق تخريجه.
(¬22) صحيح البخاري برقم (168)، وصحيح مسلم برقم (168).
(¬23) هذه الزيادة عزاها جماعة من أهل العلم للنسائي، ولم أجدها في المطبوع منه.
(¬24) المغني، لابن قدامة (2/ 574).
(¬25) المغني لابن قدامة (2/ 576)، ومجموع فتاوى ابن باز (12/ 243)، ومجموع فتاوى ابن عثيمين (11/ 232).
(¬26) المغني لابن قدامة (2/ 576)، ومجموع فتاوى ابن باز (12/ 243).
(¬27) السنن الكبرى للبيهقي (4/ 441) برقم (3718). قال الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام: رواه البيهقي بسند قوي، ولكن صحح أبو حاتم وقفه. وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (323)، وقال: والذي لا شك فيه أن الحديث بمجموع طرقه صحيح.
(¬28) سنن أبي داود برقم (287)، وحسنه الألباني في صحيح سنن أبي داود (56 - 57) برقم 267.
(¬29) سنن الترمذي برقم (2621)، وقال: حديث حسن صحيح غريب.
(¬30) صحيح البخاري برقم (597)، وصحيح مسلم برقم (684) واللفظ له.
(¬31) المغني لابن قدامة (2/ 50 - 52)، وفتاوى الشيخ ابن باز (12/ 252).
(¬32) صحيح البخاري برقم (1159)، وصحيح مسلم برقم (724).
(¬33) صحيح البخاري برقم (999)، وصحيح مسلم برقم (700).
(¬34) صحيح البخاري برقم (1102)، وصحيح مسلم برقم (689).
(¬35) شرح النووي على صحيح مسلم (5/ 205).
(¬36) الجُدُّ: شاطئُ البحرِ.
(¬37) سنن البيهقي (6/ 182) برقم (5560)، وابن أبي شيبة برقم (6623).
(¬38) نيل الأوطار (2/ 244).
(¬39) الإنصاف مع الشرح الكبير (5/ 20).
(¬40) سبق تخريجه.
(¬41) انظر: رسالة الشيخ سعيد بن وهف القحطاني صلاة المريض، فقد أجاد وأفاد.