[عودة] الكلمة التاسعة والعشرون: العزلة والاختلاط
الكلمة التاسعة والعشرون: العزلة والاختلاط
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
فقد وردت النصوص من الكتاب والسنة تحث على مخالطة الناس لتعليمهم الخير ودعوتهم إليه، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، والصبر عليهم، كما وردت النصوص تحث على اعتزالهم، وترك مخالطتهم.
ولذا اختلف العلماء أيهما أفضل: العزلة أم الاختلاط؟
استدل أصحاب القول الأول بما جاء في الصحيحين من حديث أبي سعيد رضي الله عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عِندَمَا سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ خَيرٌ؟ قَالَ: «رَجُلٌ جَاهَدَ بِنَفسِهِ وَمَالِهِ، وَرَجُلٌ فِي شِعْبٍ مِنَ الشِّعَابِ، يَعْبُدُ رَبَّهُ، وَيَدَعُ النَّاسَ مِنْ شَرِّهِ» (¬1).
وبما رواه الترمذي في سننه من حديث عقبة بن عامر قال: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا النَّجَاةُ؟ قَالَ: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَليَسَعْكَ بَيْتُكَ، وَابْكِ عَلَى خَطِيْئَتِكَ» (¬2).
وبالحديث الذي رواه البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث حذيفة بن اليمان: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له في آخر الحديث: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الْفِرَقَ كُلَّهَا، وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ عَلَى أَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ الْمَوْتُ، وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ» (¬3).
وبما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ خَيْرُ مَالِ المُسْلِم غَنَمًا يَتْبَعُ بِهَا شَعَفَ الجِبَالِ وَمَوَاقِعَ القَطْرِ، يَفِرُّ بِدِينِهِ مِنَ الفِتَنِ» (¬4).
وقال عمر: خذوا بحظكم من العزلة. وقال سعد بن أبي وقاص: لوددت أن بيني وبين الناس بابًا من حديد، لا يكلمني أحد ولا أكلمه، حتى ألقى الله سبحانه (¬5) .. وغيرها من الأدلة.
واستدل أصحاب القول الثاني بقول الله تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَاكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأَسْوَاقِ لَوْلاَ أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا} [الفرقان: 7]. فقد كان عليه الصلاة والسلام يخالط الناس في أسواقهم، ويأمرهم، وينهاهم، ويأكل معهم، كما قال تعالى: {وَما أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَاكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا} [الفرقان: 20].
روى الترمذي وابن ماجه في سننهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعظَمُ أَجرًا مِنَ المُؤمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ» (¬6). كما استدلوا بما أوجبه الله على المسلمين من حضور الجمع والجماعات، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإجابة دعوتهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، ولا يتحقق ذلك إلا بمخالطتهم والصواب هو التفصيل في ذلك: فمن آتاه الله العلم والقوة، واستطاع القيام بحق المخالطة من تعليم العلم، والدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع السلامة من الفتن، فالاختلاط في حق هذا أفضل؛ ومن لم يكن قادرًا على ذلك ويخشى الفتنة في دينه، فالعزلة في حقه أولى، والأول أفضل من الثاني كما جاء النص بذلك في الحديث المتقدم أنه صلى الله عليه وسلم قال: «الْمُؤْمِنُ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، أَعظَمُ أَجرًا مِنَ المُؤمِنِ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ». ولي هنا تنبيهان:
الأول: أن بعضًا ممن ينتسب إلى الدعوة ويزعم أنه من أهلها، يخالطون الناس ويسايرونهم على ما هم عليه، بل يداهنونهم ويسمونها مجاملة، أو سياسة الدعوة، ويستدلون على ذلك بهذا الحديث؛ والحديث نص في الرد عليهم، فإن فيه تعرضهم للأذى، ولا يكون ذلك إلا بسبب الأمر والنهي والصدع بالحق، وتحقيق الولاء والبراء، ولذا أُمروا بالصبر على ذلك؛ أما هؤلاء المخالطون فإن حقيقة أمرهم سياسة معايشهم والحفاظ على وجاهتهم، والابتعاد عن مواطن الأذى في ذات الله، ولو كان ذلك على حساب دينهم، ودعوة إبراهيم عليه السلام الذي هو قدوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقدوتنا، غير ما يذهب إليه هؤلاء، فإن دعوته مبنية على أمرين: الأول: تحقيق التوحيد والشهادة لله بالوحدانية المطلقة، مع التعظيم والإجلال والمحبة له جلا وعلا، والكفر بكل ما يعبد من دونه. الأمر الثاني: تحقيق الموالاة والمعاداة، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُون * إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِين * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون} [الزخرف:26 - 28].
وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
ولم تكن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم غايتها جمع الناس على حق أو باطل، بل كان صلى الله عليه وسلم فرق بين الناس، وهذا ما فهمه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعملوا به، فعندما جاء الأنصار لمبايعته في العقبة، قال لهم أسعد بن زرارة: يا أهل يثرب، إنا لم نضرب إليه أكباد الإبل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصبرون على ذلك وأجركم على الله، وإما أنتم قوم تخافون من أنفسكم (¬7) جبينة، فبينوا ذلك فهو أعذر لكم عند الله، فقالوا له: أمط عنا يدك يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبدًا، ولا نسليها (¬8) أبدًا (¬9).
وقد جاء في حديث الشفاعة: أن المؤمنين يقولون لربهم يوم القيامة: «يَا رَبَّنَا! فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا، أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ، وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ» (¬10).
التنبيه الثاني: قد يضطر المسلم الحريص على سلامة دينه إلى حال وسط بين الاختلاط المطلق والعزلة التامة، فيقتصر من الشرائع على فرائضها كحضور الجمع والجماعات، ومن الأحوال على الضروري منها، كتحصيل القوت لنفسه ومن يلزمه؛ ثم اعلموا أيها الدعاة إلى الله! أن الاختلاف بينكم ليس في نشر الخير بين عامة الناس، وتحذيرهم من الشر، وإنما الخلاف في بيان الموقف الحق من أصحاب الشوكة والنفوذ، الذين يقفون في طريق الدعوة ويحاربون الحق وأهله، ويسلكون في ذلك طرق التلبيس والنفاق، تارة بالإغراء والترغيب، وتارات بالقوة والتهديد.
ثم اعلموا أن الغاية من دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أمران: أحدهما: إقامة دولة الإسلام، وثانيهما: بيان الحق للناس كافة، وقد تحقق ذلك له صلى الله عليه وسلم ولأصحابه على أكمل الوجوه وأتمها، ويزيد آخر الزمان أمر ثالث، وهو طلب النجاة من الفتن، وتفصيل كل ما تقدم له مكان آخر، وإلى بيان بعض فوائد العزلة والاختلاط:
«الفائدة الأولى: الفراغ للعبادة، والاستئناس بمناجاة الله سبحانه، فإن ذلك يستدعي فراغًا ولا فراغ مع المخالطة، فالعزلة وسيلة إلى ذلك.
الفائدة الثانية: التخلص بالعزلة عن المعاصي التي يتعرض لها الإنسان غالبًا بالمخالطة وهي أربعة:
1 - الغيبة: فإن عادة الناس الخوض بالأعراض والتفكه بها، فإن خالطتهم ووافقتهم أثمت وتعرضت لسخط الله تعالى، وإن سكتَّ كنت شريكًا في الإثم.
2 - ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن من خالط الناس لم يَخلُ عن مشاهدة المنكرات، فإن سكت عصى الله، وإن أنكر تعرض لأنواع من الضرر، وفي العزلة سلامة من هذا.
3 - الرياء: وهو الداء العضال الذي يعسر الأضرار منه، وأول ما في مخالطة الناس إظهار التشوق إليهم، ولا يخلو ذلك عن الكذب، إما في الأصل، وإما في الزيادة. وقد كان السلف يحترزون في جواب قول السائل: كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ كما قال بعضهم، وقد قيل له: كيف أصبحت؟ قال: أصبحنا ضعفاء مذنبين، نأكل أرزاقنا، وننتظر آجالنا.
واعلم أنه إذا كان سؤال السائل لأخيه: كيف أصبحت؟ لا يبعثه عليه شفقة ولا محبة، كان تكلفًا ورياء، وربما سأله وفي القلب ضغن وحقد يورث أن يعلم فساد حاله، وفي العزلة الخلاص عن هذا؛ لأنه من لقي الخلق ولم يخالقهم بأخلاقهم، مقتوه واستثقلوه واغتابوه، ويذهب دينهم فيه، ويذهب دينه ودنياه في الانتقام منهم.
4 - مسارقة الطبع من أخلاقهم الرديئة، وهو داء دفين قلما ينتبه له العقلاء فضلًا عن الغافلين، وذلك أنه قَلَّ أن يجالس الإنسان فاسقًا مرة، مع كونه منكرًا عليه في باطنه، إلا ولو قاس نفسه إلى ما قبل مجالسته، لوجد فرقًا في النفور عن الفساد، لأن الفساد يصير بكثرة المباشرة هينًا على الطبع، ويسقط وقعه واستعظامه.
الفائدة الثالثة: الخلاص من الفتن والخصومات، وصيانة الدين عن الخوض فيها، فإنه قلما تخلو البلاد من العصبية، والخصومات، والمعتزل عنهم سليم. روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمرو رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الفتن ووصفها وقال: «إذَا رَأَيْتُمُ النَّاسَ قَدْ مَرِجَتْ عُهُودُهُمْ (¬11)، وَخَفَّتْ أمانَاتُهُمْ، وَكَانُوا هَكَذَا»، وَشَبَّكَ بَينَ أَصَابِعِهِ، فَقُلتُ: مَا تَأمُرُنِي؟ فَقَالَ: «الْزَمْ بَيْتَكَ، وَامْلِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ، وَخُذْ بِمَا تَعْرِفُ، وَدَعْ مَا تُنكِرُ، وَعَلَيْكَ بِأَمْرِ خَاصَّةِ نَفْسِكَ، وَدَعْ عَنْكَ أَمْرَ الْعَامَّةِ» (¬12).
الفائدة الرابعة: الخلاص من شر الناس، فإنهم يؤذونك مرة بالغيبة، ومرة بالنميمة، ومرة بسوء الظن، ومرة بالأطماع الكاذبة، ومن خالط الناس لم ينفك من حاسد، وعدو، وغير ذلك من أنواع الشر التي يلقاها الإنسان من معارفه، وفي العزلة خلاص من ذلك، كما قال بعضهم:
عَدُوُّكَ مِن صَدِيقِكَ مُسْتَفَادُ فَلَا تسْتَكْثِرَنَّ مِنَ الصِّحَابِ
فَإِنَّ الدَّاءَ أَكثَرُ مَا تَرَاهُ يَكُونُ مِنَ الطَّعَامِ أَوِ الشَّرَابِ
وقال عمر رضي الله عنه: في العزلة راحة من خلطاء السوء. وقال رجل لأخيه: أصحبك إلى الحج، فقال: دعنا نعيش في ستر الله، فإنا نخاف أن يرى بعضنا من بعض ما نتماقت عليه. وهذه فائدة أخرى في العزلة، وهي بقاء الستر على الدين والمروءة، وسائر العورات.
الفائدة الخامسة: أن ينقطع طمع الناس عنك، وطمعك عنهم، أما طمعهم، فإن رضاهم غاية لا تدرك، فالمنقطع عنهم قاطع لطمعهم في حضور ولائمهم وإملاكاتهم. وأما انقطاع الطمع، فإن من نظر إلى زهرة الدنيا تحرك حرصه، وانبعث بقوة الحرص طمعه، ولا يرى إلا الخيبة في أكثر المطامع فيتأذى. قال تعالى: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه: 131]. وفي الحديث: «انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ، وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ» (¬13).
الفائدة السادسة: الخلاص من مشاهدة الثقلاء الحمقى، ومقاساة أخلاقهم، وإذا تأذى الإنسان بالثقلاء، لم يلبث أن يغتابهم، فإن آذوه بالقدح فيه كافأهم، فانجر الأمر إلى فساد الدين، وفي العزلة سلامة من ذلك.
أما فوائد المخالطة:
الفائدة الأولى: التعلم والتعليم، وهو من أعظم الأعمال والقربات، فإن حاجة الناس إلى العلم الشرعي، أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب. وفي الحديث: «إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرَضِين، حَتَّى النَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّى الْحُوتُ، لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» (¬14).
الفائدة الثانية: النفع والانتفاع، أما الانتفاع بالناس فبالكسب والمعاملة، والمحتاج إلى ذلك مضطر إلى ترك العزلة، وأما النفع فهو أن ينفع الناس إما بماله، أو ببدنه لقضاء حوائجهم، ومن قدر على ذلك فهو أفضل من العزلة.
الفائدة الثالثة: التأديب والتأدب، والمراد الارتياض بمقاساة الناس، والمجاهدة في تحمل أذاهم وكسر النفس، وقهر الشهوة؛ وذلك أفضل من العزلة في حق من لم تتهذب أخلاقه، وأما التأديب فهو أن يؤدب غيره.
الفائدة الرابعة: الاستئناس والإيناس، وقد يكون مستحبًّا كالاستئناس بأهل التقوى، وقد يقصد به ترويح القلوب من كرب الوحدة، وليحرص أن يكون حديثه عند اللقاء في أمور الدين.
الفائدة الخامسة: في نيل الثواب وإنالته، أما الأول: فبحضور الجنائز، وعيادة المرضى، وحضور الزواجات والدعوات، ففيها ثواب من جهة إدخال السرور على المؤمن. أما الثاني: فهو أن يفتح بابه للناس ليعزوه، أو يهنئوه، أو يعودوه، فإنهم بذلك ينالون ثوابًا.
الفائدة السادسة: التواضع، ولا يقدر على ذلك في الوحدة، فقد يكون الكبر سببًا في اختياره العزلة، ويمنعه في المحافل التقصير في إكرامه وتقديمه، وربما ترفع عن مخالطتهم لارتفاع محله عند نفسه، أو نحو ذلك» (¬15).
فائدة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «فهذه المسألة وإن كان الناس يتنازعون فيها؟ إما نزاعًا كليًا، وإما حاليًا، فحقيقة الأمر أن الخلطة تارة تكون واجبة، أو مستحبة، والشخص الواحد قد يكون مأمورًا بالمخالطة تارة، وبالانفراد تارة وجماع ذلك: أن المخالطة إن كان فيها تعاون على البر والتقوى فهي مأمور بها، وإن كان فيها تعاون على الإثم والعدوان فهي منهي عنها، فالاختلاط بالمسلمين في جنس العبادات كالصلوات الخمس، والجمعة، والعيدين، وصلاة الكسوف، والاستقساء، ونحو ذلك هو مما أمر الله به ورسوله.
وكذلك الاختلاط بهم في الحج، وفي غزو الكفار، والخوارج المارقين، وإن كان أئمة ذلك فجارًا، وإن كان في تلك الجماعات فجار، وكذلك الاجتماع الذي يزداد العبد به إيمانًا إما لانتفاعه به، وإما لنفعه له ونحو ذلك.
ولا بد للعبد من أوقات ينفرد بها بنفسه في دعائه، وذكره، وصلاته، وتفكره ومحاسبة نفسه، وإصلاح قلبه، وما يختص به من الأمور التي لا يشركه فيها غيره، فهذا يحتاج فيها إلى انفراد بنفسه، إما في بيته، كما قال طاووس: نعم صومعة الرجل بيته، يكف فيها بصره، ولسانه، وإما في غير بيته.
فاختيار المخالطة مطلقًا خطأ، واختيار الانفراد مطلقًا خطأ، وأما مقدار ما يحتاج إليه كل إنسان من هذا، وهذا وما هو الأصلح له في كل حال، فهذا يحتاج إلى نظر خاص» (¬16).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) صحيح البخاري برقم (6494)، وصحيح مسلم برقم (1888).
(¬2) برقم (2406)، وقال: هذا حديث حسن.
(¬3) صحيح البخاري برقم (7084)، وصحيح مسلم برقم (1847).
(¬4) برقم (7088).
(¬5) مختصر منهاج القاصدين (ص142).
(¬6) سنن الترمذي برقم 2507، وابن ماجه رقم 4032 واللفظ له، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي (2/ 306) برقم (2035).
(¬7) وفي رواية: خيفة.
(¬8) وفي رواية: لا نستقيلها.
(¬9) مسند الإمام أحمد (22/ 348) برقم 14456، وقال محققوه: إسناده على شرط مسلم.
(¬10) صحيح مسلم برقم 183.
(¬11) أي: اضطربت وقل الوفاء بها.
(¬12) سنن أبي داود برقم 4343، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم 205.
(¬13) صحيح البخاري رقم (6490)، وصحيح مسلم برقم (2963).
(¬14) سنن الترمذي برقم 2685، وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب صحيح.
(¬15) مختصر منهاج القاصدين، لابن قدامة باختصار (ص141 - 150).
(¬16) الفتاوى (10/ 425 - 426).