[عودة] الكلمة الرابعة: الانتحار

الكلمة الرابعة: الانتحار
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وبعد ..
ففي كل عام يموت الآلاف من الناس منتحرين بعمليات مختلفة، إما بالحرق، أو الشنق، أو الرمي من مكان شاهق، أو تناول السم والمواد الضارة، أو إطلاق النار، .. أو غير ذلك.
وهذه الظاهرة الخطيرة التي انتشرت في بلاد العالم، تحتاج منا إلى وقفات وتأملات للاطلاع على الأسباب، والعلاج، والحكم الشرعي فيها.
وقد دَلَّتِ النصوص الشرعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن الانتحار من أعظم الذنوب عند الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا} [الفرقان:68 - 69]. وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء:29].
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَن تَرَدَّى مِن جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفسَهُ، فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَسُمُّهُ فِي يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ، فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» (¬1).
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الَّذِي يَخْنُقُ نَفْسَهُ يَخْنُقُهَا فِي النَّارِ، وَالَّذِي يَطْعُنُهَا يَطْعُنُهَا فِي النَّارِ» (¬2).
وفي الصحيحين من حديث ثابت بن الضحاك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِشَيْءٍ فِي الدُّنْيَا، عُذِّبَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» (¬3).
والمنتحر مصيره إلى النار والجنة عليه حرام. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث جندب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ: بَدَرَنِي عَبْدِي بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ» (¬4).
وبعد التأمل والاطلاع على الإحصائيات العالمية وأحوال الناس، يتبين أن من أسباب الانتحار:
أولًا: الهم والقلق النفسي والضيق الذي يشعر به الإنسان المُقْدم على الانتحار، حيث تصبح الحياة لا قيمة لها عنده، ويريد التخلص مما يعانيه، والغالب ذلك في الكفار، وقد يحصل من بعض المسلمين عند ضعف الإيمان. وصدق الله إذ يقول: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه: 126 - 124].
ثانيًا: تراكم الديون والحقوق ومطالبة أصحابها بها والخوف من عواقب ذلك، وفقدان الوظيفة أو عدم الحصول عليها بعد البحث والانتظار لسنوات عديدة، والبقاء عاطلًا بلا عمل.
ثالثًا: الخسارة المالية الكبيرة التي تسبب الصدمة العنيفة لصاحبها على سبيل المثال (خسارة الأسهم المشهورة في السنوات الماضية).
رابعًا: الأمراض النفسية المزمنة، كحالات الاكتئاب الشديدة، أو انفصام الشخصية، وأثبتت الدراسات أن (90%) من حالات الانتحار كانت بسبب الاكتئاب.
خامسًا: استعمال المخدرات والمسكرات، فإنها تسبب تلف خلايا المخ، وبالتالي يصبح المدمن عرضة للانتحار في أي وقت.
سادسًا: المشاكل الأسرية والتي تؤدي إلى الطلاق، وتشتت الأسر، والعزلة عن الناس.
سابعًا: السجن لسنوات طويلة مع شعور السجين بالظلم، والإهمال لحقوقه.
ثامنًا: تسجيل بعض المواقف السياسية، أو الاحتجاج على بعض الأوضاع المعيشية الصعبة، كحالات الفقر الشديدة، أو البطالة، أو غيرها، ويكون هذا أمام المقرات الرسمية المهمة في الدول.
تاسعًا: سجلت حالات انتحار لأطفال لم يبلغوا الحلم، إما بسبب تقليد الأفلام الكرتونية، أو لعدم احتواء مشاكلهم، واضطراباتهم السلوكية، أو لغير ذلك.
عاشرًا: ويلحق بهذه الأسباب قيادة السيارات بطريقة غير صحيحة، كمن يسرع سرعة شديدة تؤدي إلى عدم السيطرة على السيارة تحت أي ظرف يتعرض له، أو القيادة بشكل معاكس للطريق، أو التفحيط أو المسابقة بالسيارات .. أو غير ذلك مما يفعله السفهاء.
ولعل من الحلول المناسبة لهذه الجريمة الخطيرة:
أولًا: تقوية الوازع الديني لدى الناس وتذكيرهم بالتوكل على الله وتفويض الأمر إليه سبحانه، قال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُير} [الأنعام:17]. والصبر على البلاء، وأن يسعوا في الرزق، فليس مرتبطًا بالوظيفة، أو الشهادة الدراسية، فكم من أُمِّيٍّ لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك يملك الأموال الطائلة؟! قال تعالى: {وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُون} [الذاريات:22].
ثانيًا: الاقتصاد في المعيشة، والبعد عن الإسراف، وأن يقتصر الدين على الحالات الضرورية القصوى، قال تعالى: {وكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِين} [الأعراف:31].
ثالثًا: التداوي بالقرآن، فإن فيه الشفاء لكل الأمراض النفسية والعضوية، قال تعالى: {وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء} [فصلت: 44]. وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82]. واستعمال العقاقير الطبية الموصوفة من الأطباء المتخصصين الموثوق بهم.
رابعًا: بث الوعي الديني بخطورة العجلة في قيادة السيارات، والالتزام بأنظمة المرور، قال تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وبيان فوائد الالتزام بآداب القيادة، وما فيها من المصالح وما يدرأ بها من المفاسد، وإحالة المخالفين إلى المحاكم الشرعية لمعاقبتهم بما يقتضيه الحكم الشرعي.
خامسًا: إبعاد الأفلام، والمسلسلات الكرتونية، أو التلفزيونية التي تحتوي على العنف، أو الانتحار عن الأطفال، واستبدالها بما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) صحيح البخاري برقم 5778، وصحيح مسلم برقم 109.
(¬2) صحيح البخاري برقم 1364، وصحيح مسلم برقم 109 مطولًا باختلاف.
(¬3) جزء من حديث في صحيح البخاري برقم 6105، وصحيح مسلم برقم 110.
(¬4) صحيح البخاري برقم 1364، وصحيح مسلم برقم 113 مطولًا وبدون ذكر «بدرني عبدي».