[عودة] الكلمة الثالثة والثلاثون: دروس وعبر من
الكلمة الثالثة والثلاثون: دروس وعبر من
قوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا .. } [الزخرف] إلى آخر الآيات.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول ذالله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
قال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: «يخبر تعالى بأن الدنيا لا تساوي عنده شيئًا، وأنه لولا لطفه ورحمته بعباده التي لا يُقَدِّم عليها شيئًا لَوَسَّع الدنيا على الذين كفروا توسيعًا عظيمًا، ولجعل {لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ} أي درجًا من فضة {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} إلى سطوحهم. {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا} من فضة {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ}، {وَزُخْرُفًا} أي: ولَزَخْرَفَ لهم دنياهم بأنواع الزخارف، لكن منعه من ذلك رحمته بعباده خوفًا عليهم من التسارع في الكفر، وكثرة المعاصي بسبب حب الدنيا، ففي هذا دليل على أنه يمنع العباد بعض أمور الدنيا منعًا عامًا أو خاصًا لمصالحهم، وأن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة، وأن كل هذه المذكورات متاع الحياة الدنيا منغصة مكدرة فانية، وأن الآخرة عند الله خير للمتقين لربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، لأن نعيمها تام كامل من كل وجه، وفي الجنة ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وهم فيها خالدون، فما أشد الفرق بين الدارين» (¬1). اهـ.
وفي هذه الآيات الكريمات فوائد كثيرة منها:
- أن ما يعطيه الله الكفار من نعم الدنيا إنما ذلك لهوان الدنيا عنده، وحقارتها، وابتلاء لهم وفتنة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَاليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف:20]، روى مسلم في صحيحه من حديث أنس - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ لاَ يَظْلِمُ مُؤْمِنًا حَسَنَةً يُعْطَى بِهَا فِي الدُّنْيَا وَيُجْزَى بِهَا فِي الآخِرَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُطْعَمُ بِحَسَنَاتِ مَا عَمِلَ بِهَا لِلهِ فِي الدُّنْيَا، حَتَّى إِذَا أَفْضَى إِلَى الآخِرَةِ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ يُجْزَى بِهَا» (¬2).
ولهذا قال عمر - رضي الله عنه - عندما صعد إلى مشربة النبي - صلى الله عليه وسلم -، لما آلى - صلى الله عليه وسلم - من نسائه، فرآه على رمال حصير قد أثر بجنبه، فابتدرت عيناه بالبكاء وقال: يا رسول الله: هذا كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه؟! وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متكئًا فجلس. وقال: «أَوَ فِي شَكٍّ أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟!» ثم قال - صلى الله عليه وسلم -: «أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلَتْ لَهُمْ طَيِّبَاتُهُمْ فِي حَيَاتِهِمُ الدُّنْيَا» وفي رواية: «أَمَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ لَهُمُ الدُّنْيَا وَلَنَا الآخِرَةُ؟!» (¬3).
- ومنها: أن كثرة النعم والخيرات التي يعطيها الله لعبده ليست دليلاً على محبته.
قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخَيْرَاتِ بَل لاَ يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56]، روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عقبة بن عامر - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنَ الدُّنْيَا مَا يُحِبُّ، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ مِنهُ اسْتِدْرَاجٌ» (¬4). ثم تلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الآية: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
- ومنها أن فيها الترغيب في الآخرة والزهد في الدنيا، قال سبحانه: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:131].
- ومنها بيان حقارة الدنيا وهوانها على الله، روى الترمذي في سننه من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ» (¬5).
وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه -: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَرَّ بِالسُّوقِ داخلاً من بعض العالية وَالنَّاسُ كنفته، فَمَرَّ بِجَدْىٍ أَسَكَّ - أي صغير الأذن - ميِّتٍ، فتناوله فأخذ بأذنه فقَالَ: «أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنَّ هَذَا لَهُ بِدِرْهَمٍ؟» فَقَالُوا: مَا نُحِبُّ أَنَّهُ لَنَا بِشَيْءٍ، وَمَا نَصْنَعُ بِهِ؟ قَالَ: «أَتُحِبُّونَ أَنَّهُ لَكُمْ؟» قَالُوا: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ حَيًّا كَانَ عَيْبًا فِيهِ لأَنَّهُ أَسَكُّ، فَكَيْفَ وَهُوَ مَيِّتٌ؟! فَقَالَ: «فَوَاللَّهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَيْكُمْ» (¬6).
وروى مسلم في صحيحه من حديث مستورد أخي بني فهر - رضي الله عنه -: أَنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: «وَاللهِ مَا الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مِثْلُ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكُمْ إِصْبَعَهُ هَذِهِ -وَأَشَارَ يَحْيَى بِالسَّبَّابَةِ- فِي الْيَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَا تَرْجِعُ؟» (¬7).
وقال عمر - رضي الله عنه -: لو أن الدنيا من أولها إلى آخرها أوتيها رجل، ثم جاءه الموت، لكان بمنزلة من رأى في منامه ما يسره، ثم استيقظ فإذا ليس في يده شيء (¬8).
وقال أحد السلف: نعيم الدنيا بحذافيره في جنب نعيم الآخرة، أقل من ذرة في جنب جبال الدنيا (¬9).
قال ابن القيم رحمه الله: ومن حدق بصيرته في الدنيا والآخرة، علم أن الأمر كذلك (¬10).
ومنها: أن الله تعالى يمنع عبده بعضًا من أمور الدنيا لينال منزلة عالية عنده يوم القيامة. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث محمود بن لبيد - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ اللهَ يَحْمِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ الدُّنْيَا وَهُوَ يُحِبُّهُ، كَمَا تَحْمُونَ مَرِيضَكُمُ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ تَخَافُونَ عَلَيْهِ» (¬11).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) تفسير ابن سعدي (ص765).
(¬2) صحيح مسلم برقم (2808).
(¬3) صحيح البخاري برقم (4913)، وصحيح مسلم برقم (1479).
(¬4) مسند الإمام أحمد (28/ 547) برقم (17311)، وقال محققوه: حديث حسن.
(¬5) سنن الترمذي برقم (2320)، وقال الترمذي: هذا حديث صحيح غريب من هذا الوجه.
(¬6) صحيح مسلم برقم (2957).
(¬7) صحيح مسلم برقم (2858).
(¬8) مدارج السالكين (3/ 97).
(¬9) مدارج السالكين (3/ 97).
(¬10) مدارج السالكين (3/ 97).
(¬11) مسند الإمام أحمد (39/ 37) برقم (23627)، وقال محققوه: حديث صحيح.