[عودة] الكلمة الحادية والتسعون: الفقراء والضعفاء

الكلمة الحادية والتسعون: الفقراء والضعفاء
الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ:
فإن الله بحكمته وعلمه فاضل بين عباده بالفقر، والغنى، فأغنى من شاء وأفقر من شاء، قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32]، وقَالَ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُون (35)} [الأنبياء: 35]، قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: أي: نبتليكم بالشر والخير أي بالشدة والرخاء، والصحة، والسقم، والغنى، والفقر، والحلال، والحرام، والطاعة، والمعصية، والهدى، والضلال، وهذا من تمام حكمته ورحمته بخلقه، فلو أغنى الناس جميعًا لبغوا في الأرض، قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء} [الشورى: 27].
والفقراء هم أول من يدخل الجنة، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العَاصِ رضي اللهُ عنهما: عَن رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ؟ قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ الْفُقَرَاءُ الْمُهَاجِرُونَ، الَّذِينَ تُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ، وَيُتَّقَى بِهِمُ الْمَكَارِهُ، وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً» (¬1).
وروى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يَدْخُلُ الْفُقَرَاءُ الْجَنَّةَ قَبْلَ الْأَغْنِيَاءِ بِخَمْسِ مِائَةِ عَامٍ نِصْفِ يَوْمٍ» (¬2).
والفقراء هم أكثر أهل الجنة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ عِمْرَانَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» (¬3).
والفقراء هم أتباع الأنبياء والرسل: روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: «أَنَّ هِرَقلَ مَلِكَ الرُّومِ سَأَلَ أَبَا سُفيَانَ عَن أَتبَاعِ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم هَل هُم أَشْرَافُ النَّاسِ، أَو ضُعَفَاؤُهُمْ؟ فَقَالَ: بَل ضُعَفَاؤُهُمْ، فَقَالَ: هُمْ أَتْبَاعُ الرُّسُلِ» (¬4).
وقد أمر الله نبيه صلى اللهُ عليه وسلم بملازمة الفقراء، والضعفاء، والمكث معهم، فإن ذلك أبعد عن مظاهر الدنيا وفتنتها، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ سَعدِ بنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم فِي سِتَّةِ نَفَرٍ، قَالَ الْمُشْرِكُونَ: اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا، قَالَ: وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ نَسِيتُ اسمَيهِمَا فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ عزَّ وجلَّ: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] (¬5).
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يَمْتَثِلُ أَمْرَ رَبِّهِ وَيَقُولُ: «اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا، وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ يَومَ القِيَامَةِ» (¬6).
وقد ابْتُلِيَ النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم وأصحابُه بالجوع الشديد فصبروا حتى أغناهم الله، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ عُمَرَ رضي اللهُ عنه قَالَ: لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَظَلُّ الْيَوْمَ يَتَلَوَّى، مَا يَجِدُ دَقَلًا (¬7) يَمْلُأَ بَطْنَهُ (¬8).
قَالَ سَهْلُ بنُ حُنَيْفٍ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَأتِي ضُعَفَاءَ المُسلِمِينَ، وَيَزُورُهُم، وَيَعُودُ مَرضَاهُم، وَيَشهَدُ جَنَائِزَهُم (¬9).
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ عَائِشَةَ رضي اللهُ عنها قَالَتْ: «مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ خُبْزِ شَعِيرٍ، يَوْمَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ حَتَّى قُبِضَ صلى اللهُ عليه وسلم» (¬10).
قال ابن كثير في قَولِهِ تَعَالَى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (8)} [الضحى: 8]. أي: كنت فقيرًا ذا عيال فأغناك الله عمن سواه، فجمع له بين مقامي الفقير الصابر، والغني الشاكر (¬11).
وروى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ المُغِيرَةِ بنِ شُعبَةَ رضي اللهُ عنه قَالَ: كُنَّا فِي شَقَاءٍ شَدِيدٍ، وَبَلَاءٍ شَدِيدٍ، نَمُصُّ الجِلدَ، وَالنَّوَى مِنَ الجُوعِ (¬12).
وَيَقُولُ أَبُو هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: اللهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، إِن كُنتُ لَأَعتَمِدُ بِكَبِدِي عَلَى الأَرضِ مِنَ الجُوعِ، وَإِن كُنتُ لَأَشُدُّ الحَجَرَ عَلَى بَطنِي مِنَ الجُوعِ (¬13).
وَيَقُولُ سَعدُ بنُ أَبِي وَقَّاصٍ رضي اللهُ عنه: وَكُنَّا نَغْزُو مَعَ النَّبِيِّ صلى اللهُ عليه وسلم، وَمَا لَنَا طَعَامٌ إِلَّا وَرَقُ الشَّجَرِ، حَتَّى إِنَّ أَحَدَنَا لَيَضَعُ كَمَا يَضَعُ الْبَعِيرُ أَوِ الشَّاةُ، مَا لَهُ خِلْطٌ، قَالَ الشُّرَّاحُ: أَي: لِجَفَافِهِ وَيُبْسِهِ (¬14).
وقد يحتقر الفقير في مجتمعه ولكنه عند الله بمنزلة عظيمة، روى البخاري في صحيحه مِن حَدِيثِ سَهْلٍ السَّاعِدِيِّ رضي اللهُ عنه أَنَّهُ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم فَقَالَ لِرَجُلٍ عِنْدَهُ جَالِسٌ: «مَا رَايُكَ فِي هَذَا؟»، فَقَالَ: رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِ النَّاسِ، هَذَا وَاللهِ حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَن يُنْكَحَ، وَإِن شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، قَالَ: فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم، ثُمَّ مَرَّ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَا رَأيُكَ فِي هَذَا؟»، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ المُسْلِمِينَ، هَذَا حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَن لَا يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْمَعَ لِقَولِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «هَذَا خَيرٌ مِنْ مِلءِ الأَرضِ مِثلِ هَذَا» (¬15).
وأخبر النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن الرزق والنصر يكون بسبب الضعفاء، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ أَبِي الدَّردَاءِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «أَبْغُونِي ضُعَفَاءَكُمْ، فَإِنَّكُمْ إِنَّمَا تُرْزَقُونَ، وَتُنْصَرُونَ بِضُعَفَائِكُمْ» (¬16).
وبيَّن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن الساعي على الأرملة، والمسكين كالمجاهد في سبيل الله أو كالصائم القائم، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «السَّاعِي عَلَى الْأَرْمَلَةِ، وَالْمِسْكِينِ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَحْسِبُهُ قَالَ: وَكَالْقَائِمِ لَا يَفْتُرُ، وَكَالصَّائِمِ لَا يُفْطِرُ» (¬17).
وبيَّن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أن شر الطعام طعام الوليمة التي لا يُدعى إليها الفقراء، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «بِئْسَ الطَّعَامُ طَعَامُ الْوَلِيمَةِ، يُدْعَى إِلَيهِ الْأَغْنِيَاءُ، وَيُتْرَكُ المَسَاكِينُ» (¬18).
وما تقدم ذكره من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة يتضمن التنبيه على حال طائفة من المسلمين ابتلوا بالفقر، والضعف، فصبروا، واحتسبوا، ورضوا بما كتب الله لهم، أما المسألة المشهورة وهي التفضيل بين الغنى والفقر فقد اختلف فيها أهل العلم، والذي يترجح فضل الغني الشاكر على الفقير الصابر، ولتفصيل ذلك مكان آخر (¬19).
وخيرُ الفقراءِ المُتَعَفِّفُ، قَالَ تَعَالَى: {لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273].
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلَا يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا» (¬20).
يُروَى عَن عَونِ بنِ عَبدِ اللِه بنِ عُتْبَةَ قَالَ: صَحِبْتُ الأَغنِيَاءَ فَلَم أَرَ أَحَدًا أَكبَرَ هَمًّا مِنِّي، أَرَى دَابَّةً خَيرًا مِن دَابَّتِي، وَثَوبًا خَيرًا مِن ثَوبِي، وَصَحِبْتُ الفُقَرَاءَ فَاسْتَرَحْتُ (¬21).
وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.
¬_________
(¬1) «مسند الإمام أحمد» (11/ 131) (برقم 6570)، وقال محققوه: إسناده جيد.
(¬2) «سنن الترمذي» (برقم 2353)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
(¬3) «صحيح البخاري» (برقم 5198)، و «صحيح مسلم» (برقم 2737).
(¬4) «صحيح البخاري» (برقم 7).
(¬5) «صحيح مسلم» (برقم 2413).
(¬6) «سنن الترمذي» (برقم 2352)، وصححه الألباني في صحيح «سنن الترمذي» (2/ 275) (برقم 1917).
(¬7) الدَّقَل: التمر الرديء.
(¬8) «صحيح مسلم» (برقم 2978).
(¬9) «مستدرك الحاكم» (3/ 270) (برقم 3787)، وصححه الألباني في «صحيح الجامع الصغير» (برقم 4877).
(¬10) «صحيح البخاري» (برقم 5374)، و «صحيح مسلم» (برقم 2970) واللفظ له.
(¬11) «تفسير ابن كثير» (14/ 385).
(¬12) «صحيح البخاري» (برقم 3159).
(¬13) «صحيح البخاري» (برقم 6452).
(¬14) «صحيح البخاري» (برقم 3728)، و «صحيح مسلم» (برقم 2966).
(¬15) «صحيح البخاري» (برقم 6447).
(¬16) «مسند الإمام أحمد» (36/ 60) (برقم 21731)، وقال محققوه: إسناده صحيح. وأصل الحديث في البخاري (برقم 2896).
(¬17) «صحيح البخاري» (برقم 6006)، و «صحيح مسلم» (برقم 2982) واللفظ له.
(¬18) «صحيح مسلم» (برقم 1432).
(¬19) انظر: «عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين» لابن القيِّم رحمه الله.
(¬20) «صحيح البخاري» (برقم 1476)، و «صحيح مسلم» (برقم 1039).
(¬21) «سنن الترمذي» (ص304).