[عودة] الكلمة الخامسة والثمانون: وقفات مع سورة الكافرون

الكلمة الخامسة والثمانون: وقفات مع سورة الكافرون
الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ:
فإن الله أنزل هذا القرآن العظيم لتدبره والعمل به فقال سبحانه {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24)} [محمد: 24].ومن سور القرآن الكريم التي تتكرر على أسماعنا ونحن بحاجةٍ إلى تدبرها ومعرفة ما فيها من الحكم والفوائد الجليلة سورة الكافرون.
قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون (1) لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون (2) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد (3) وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّم (4) وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين (6)} [الكافرون: 1 - 6].
هذه السورة من السور العظيمة في كتاب الله، وقد وردت نصوص كثيرة في فضلها ومكانتها، وأنها تعدل ربع القرآن، روى الترمذي في سننه مِن حَدِيثِ أَنَسِ بنِ مَالِكٍ رضي اللهُ عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون} عُدِلَتْ لَهُ بِرُبُعِ الْقُرْآنِ، وَمَنْ قَرَأَ: و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} عُدِلَتْ لَهُ بِثُلُثِ الْقُرْآنِ» (¬1).
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يُكثِرُ مِن قِرَاءَتِهَا، روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَرَأَ بِهَذِهِ السُّورَةِ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون}، وَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} فِي رَكعَتَيِ الطَّوَافِ (¬2).
وفي صحيح مسلم مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم قَرَأَ بِهِمَا فِي رَكعَتَيِ الفَجرِ (¬3).
وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ ابنِ عُمَرَ رضي اللهُ عنهما قَالَ: رَمَقْتُ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً، أَوْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ مَرَّةً يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} (¬4).
وروى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ فَرْوَةَ بنِ نَوْفَلٍ عَن أَبِيهِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ لَهُ: «اقْرَا عِنْدَ مَنَامِكَ {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون}، قَالَ: ثُمَّ نَمْ عَلَى خَاتِمَتِهَا، فَإِنَّهَا بَرَاءَةٌ مِنَ الشِّرْكِ» (¬5).
وَكَانَ النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم يَرْقِي نَفسَهُ بِهَذِهِ السُّورَةِ، روى الطبراني في المعجم الصغير مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «لَعَنَ اللهُ العَقرَبَ لَا تَدَعُ مُصَلِّيًا وَلَا غَيرَهُ، ثُمَّ دَعَا بِمَاءٍ وَمِلحٍ وَجَعَلَ يَمسَحُ عَلَيهَا وَيَقرَأُ: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون} {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَق}، وَ {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس}» (¬6).
قوله: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُون} شمل كل كافر على وجه الأرض، ولكن المواجهين بهذا الخطاب هم كفار قريش.
قال ابْنُ عَبَّاسٍ رضي اللهُ عنهما: إِنَّ قُرَيْشًا وَعَدُوا رَسُولَ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم أَنْ يُعْطُوهُ مَالًا، فَيَكُونَ أَغْنَى رَجُلٍ بِمَكَّةَ، وَيُزَوِّجُوهُ مَا أَرَادَ مِنَ النِّسَاءِ، وَيَطَؤُوا عَقِبَهُ، فَقَالُوا: هَذَا لَكَ عِنْدَنَا يَا مُحَمَّدُ، وَكُفَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا، فَلَا تَذْكُرْهَا بِسُوءٍ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ، فَإِنَّا نَعْرِضُ عَلَيْكَ خَصْلَةً وَاحِدَةً، فَهِيَ لَكَ وَلَنَا فِيهَا صَلَاحٌ. قَالَ: مَا هِيَ؟ قَالُوا: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً: اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، فَنَزَلَتِ السُّورَةُ (¬7).
قَولُهُ تَعَالَى: {ولاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُون (2)} يعني: من الأصنام والأنداد.
قَولُهُ تَعَالَى: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد (3)} وهو الله وحده لا شريك له.
قَولُهُ تَعَالَى: {وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّم (4)} أي في المستقبل لا أعبد عبادتكم، أي لا أسلكها ولا أقتدي بها وإنما أعبد الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه.
قَولُهُ تَعَالَى: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُد (5)}، أي: لا تقتدون بأوامر الله وشرعه في عبادته، بل قد اخترعتم شيئًا من تلقاء أنفسكم كما قَالَ تَعَالَى: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى (23)} [النجم: 23]، فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه، فإن العابد لا بد له من معبود يعبده، وعبادة يسلكها إليه، فالرسول وأتباعه يعبدون الله بما شرعه، ولهذا كانت كلمة الإسلام (لا إله إلا الله محمد رسول الله) أي لا معبود بحق إلا الله، ولا طريق إليه إلا بما جاء به رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن بها الله، قَالَ تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَاذَن بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21].
قَولُهُ تَعَالَى {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين (6)}، وهو كما قَالَ تَعَالَى: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُون (41)} [يونس: 41]، وكما قَالَ تَعَالَى: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55].
قال البخاري: يُقال: {لَكُمْ دِينُكُمْ}: الكفر، {وَلِيَ دِين}: الإسلام، ولم يقل: ديني لأن الآيات بالنون فحذف الياء، كما قَالَ تَعَالَى: {فَهُوَ يَهْدِين} [الشعراء: 78] (¬8).
ومن فوائد السورة الكريمة:
أولًا: أن فيها الإخلاص لله في العبادة وعدم الإشراك به كما قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِين (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِين (163)} [الأنعام: 162 - 163].
ثانيًا: البراءة من الشرك والمشركين، كما قال تعالى عن نبي الله إبراهيم: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4].
ثالثًا: أن الكفار يريدون من المسلمين التنازل والمداهنة في دينهم، ولكن على المسلمين الثبات والاستقامة كما قَالَ تَعَالَى: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُون (9)} [القلم: 9]، وكما قَالَ تَعَالَى: {وَلاَ تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود: 113]، وقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلا (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)} [الإسراء: 74 - 75].
رابعًا: ظن البعض أن السورة منسوخة بآية السيف لاعتقادهم أن هذه الآية اقتضت التقرير لهم على دينهم، وظن آخرون أنها مخصوصة بمن يُقَرُّونَ على دينهم وهم أهل الكتاب، قال ابن القيِّم رحمه الله: «وكلا القولين غلط محض، فلا نسخ في السورة ولا تخصيص، بل هي محكمة وعمومها نص محفوظ، وهي من السورة التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها، فإن أحكام التوحيد الذي اتفقت عليه دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيه، وهذه السورة أخلصت التوحيد، ولهذا تسمى سورة الإخلاص كما تقدم.
ومعاذ الله أن تكون الآية اقتضت تقريرًا لهم، أو إقرارًا على دينهم أبدًا، فلم يزل رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم من أول الأمر وأشده عليه وعلى أصحابه أشد في الإنكار عليهم وعيب دينهم وتقبيحه والنهي عنه، والتهديد والوعيد لهم كل وقت، وفي كل ناد، وقد سألوه أن يكف عن ذكر آلهتهم وعيب دينهم ويتركونه وشأنه، فأبى إلا مضيًا على الإنكار عليهم وعيب دينهم، فكيف يقال: إن الآية اقتضت تقريرًا لهم؟ معاذ الله من هذا الزعم الباطل، إنما الآية اقتضت براءته المحضة كما تقدم، وأن ما أنتم عليه من الدين لا نوافقكم عليه أبدًا فإنه دين باطل، فهو مختص بكم لا نشارككم فيه ولا أنتم تشاركوننا في ديننا الحق وهذا غاية البراءة والتنصل من موافقتهم في دينهم، فأين الإقرار؟ حتى يَدَّعُوا النسخ أو التخصيص، أفنرى إذا جوهدوا بالسيف كما جوهدوا بالحجة لا يصح أن يقال: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِين}، بل هذه آية قائمة محكمة ثابتة بين المؤمنين والكافرين إلى أن يطهر الله منهم عباده وبلاده، وكذلك حكم هذه البراءة بين اتباع رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم أهل سننه وبين أهل البدع المخالفين لما جاء به، الداعين إلى غير سنته إذا قال لهم خلفاء الرسول وورثته: (لكم دينكم ولنا ديننا) لا يقتضي هذا إقرارهم على بدعتهم بل يقولون لهم هذا براءة منهم ومن بدعتهم، وهم مع هذا متنصبون للرد عليهم ولجهادهم بحسب الإمكان» (¬9).
خامسًا: عصمة الله لنبيه من الوقوع في عبادة الأصنام، وإجابة المشركين إلى اقتراحهم الباطل.
وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.
¬_________
(¬1) «سنن الترمذي» (برقم 2893)، وصححه الألباني في صحيح «سنن الترمذي» (3/ 6) (برقم 2317).
(¬2) «صحيح مسلم» (برقم 1218).
(¬3) «صحيح مسلم» (برقم 726).
(¬4) «مسند الإمام أحمد» (9/ 509 - 510) (برقم 5699)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين.
(¬5) «مسند الإمام أحمد» (39/ 224) (برقم 23807)، وقال الحافظ في «نتائج الأفكار» (3/ 61 - 62) [دار ابن كثير]: حديث حسن وفي سنده اختلاف كثير على أبي اسحاق السبيعي، فلذا اقتصرت على تحسينه، وحسنه محققو المسند.
(¬6) «المعجم الصغير» (ص117)، وصححه الشيخ الألباني في «السلسلة الصحيحة (2/ 80) (برقم 548).
(¬7) «تفسير ابن جرير الطبري» (10/ 8813).
(¬8) «تفسير ابن كثير» (14/ 486 - 487).
(¬9) «بدائع الفوائد» (5/ 355).