[عودة] الكلمة الحادية والثمانون: الإمام عبد الله بن المبارك وشيء من أخباره

الكلمة الحادية والثمانون: الإمام عبد الله بن المبارك وشيء من أخباره
الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ:
فهذه مقتطفات من سيرة علم من أعلام هذه الأمة، وإمام من أئمة الهدى، نصر الله به الدين، وحفظ به السنة. قال عنه الذهبي: شيخ الإسلام وأمير الأتقياء في وقته، الحافظ الغازي عبد الله بن المبارك الحنظلي مولاهم التركي ثم المروزي، ولد سنة (118هـ)، وطلب العلم وهو ابن عشرين سنة، وأكثر من الترحال والتطواف في طلب العلم، وفي الغزو، وفي التجارة، والإنفاق على الإخوان في الله، وتجهيزهم معه إلى الحج، قال شعيب بن حرب: سمعت أبا أسامة يقول: ابن المبارك في المحدثين مثل أمير المؤمنين في الناس، وكان ابن المبارك يكثر الجلوس في بيته، فقيل له: ألا تستوحش؟ فقال: كيف أستوحش وأنا مع النبي صلى اللهُ عليه وسلم وأصحابه؟
قال أشعث بن شعبة: قدم الرشيد الرقة فانجفل الناس خلف ابن المبارك، وتقطعت النعال، وارتفعت الغبرة، فأشرفت أم ولد لأمير المؤمنين من [برج من] قصر الخشب، فقالت: ما هذا؟ قالوا: عالم من أهل خراسان قدم، قالت: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بِشُرَطٍ وأعوان.
قال محمد بن أعين: سمعت عبد الرحمن بن مهدي واجتمع إليه أصحاب الحديث فقالوا له: جالست الثوري وسمعت منه ومن ابن المبارك، فأيهما أرجح؟ قال: لو أن سفيان جهد على أن يكون يومًا مثل عبد الله لم يقدر، وقال سفيان الثوري: إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة مثل ابن المبارك، فما أقدر أن أكون ولا ثلاثة أيام.
وقال ابن عيينة: نظرت في أمر الصحابة، وأمر عبد الله فما رأيت لهم عليه فضلًا إلا بصحبتهم النبي صلى اللهُ عليه وسلم، وغزوهم معه.
قال ابن المبارك: استعرت قلمًا بأرض الشام فذهبت على أن أرده، فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه.
واجتمع جماعة مثل الفضل بن موسى، ومخلد بن الحسين فقالوا: تعالوا نعد خصال ابن المبارك من أبواب الخير، فقالوا: العلم، والفقه، والأدب، والنحو واللغة، والزهد، والفصاحة، والشعر، وقيام الليل، والعبادة، والحج، والغزو، والشجاعة، والفروسية، والقوة، وترك الكلام فيما لا يعنيه، والإنصاف، وقلة الخلاف مع أصحابه.
وقيل لابن المبارك: إذا أنت صليت لم لا تجلس معنا؟ قال: أجلس مع الصحابة والتابعين، أنظر في كتبهم وآثارهم، فما أصنع معكم؟ أنتم تغتابون الناس.
قال نعيم بن حماد: كان ابن المبارك إذا قرأ كتاب الرقاق يصير كأنه ثور منحور، أو بقرة منحورة من البكاء لا يجترئ أحد منا أن يسأله عن شيء إلا دفعه.
وروى غير واحد أن ابن المبارك قيل له: إلى متى تكتب العلم؟ قال: لعل الكلمة التي أنتفع بها لم أكتبها بعد.
وكان عبد الله غنيًّا شاكرًا كريمًا، قال سلمة بن سليمان: جاء رجل إلى ابن المبارك فسأله أن يقضي دينًا عليه، فكتب له إلى وكيل له، فلما ورد عليه الكتاب قال له الوكيل: كم الدين الذي سألته قضاءه؟ قال: سبع مئة درهم، وإذا عبد الله قد كتب له أن يعطيه سبعة آلاف درهم، فراجعه الوكيل وقال: إن الغلات قد فنيت، فكتب إليه عبد الله إن كانت الغلات قد فنيت، فإن العمر أيضًا قد فني، فأجز له ما سبق به قلمي.
وكان يقول للفضيل: لولاك وأصحابك ما اتجرت، وكان ينفق على الفقراء في كل سنة مئة ألف درهم.
قال علي بن الفضيل: سمعت أبي يقول لابن المبارك: أنت تأمرنا بالزهد والتقلل، والبلغة، ونراك تأتي بالبضائع، كيف ذا؟ قال: يا أبا علي إنما أفعل ذا لأصون وجهي، وأُكرم عرضي، وأستعين به على طاعة ربي، قال: يا ابن المبارك ما أحسن ذا إن تم ذا.
قال محمد بن عيسى: كان ابن المبارك كثير الاختلاف إلى طرسوس؛ وكان ينزل الرقة في خان، فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم عبد الله مرة فلم يره فخرج في النفير مستعجلًا، فلما رجع سأل عن الشاب فقيل: محبوس على عشرة آلاف درهم، فاستدل على الغريم ووزن له عشرة آلاف وحلفه ألا يخبر أحدًا ما عاش، فَأُخْرِجَ الرجل وسَرَى ابن المبارك، فَلَحِقَه الفتى على مرحلتين من الرقة، فقال: يا فتى أين كنت لم أرك؟ قال: يا أبا عبد الله كنت محبوسًا بدين، قال: وكيف خلصت؟ قال: جاء رجل فقضى ديني ولم أَدْرِ، قال: فاحمد الله، ولم يعلم الرجل إلا بعد موت عبد الله.
وكان ابن المبارك إذا كان وقت الحج اجتمع إليه إخوانه من أهل مرو فيقولون: نصحبك، فيقول: هاتوا نفقاتكم، فيأخذ نفقاتهم فيجعلها في صندوق ويقفل عليها، ثم يكتري لهم ويخرجهم من مرو إلى بغداد فلا يزال ينفق عليهم، ويطعمهم أطيب الطعام، وأطيب الحلوى، ثم يخرجهم من بغداد بأحسن زي، وأكمل مروءة حتى يصلوا إلى مدينة الرسول صلى اللهُ عليه وسلم فيقول لكل واحد: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من المدينة من طرفها؟ فيقول: كذا وكذا، ثم يخرجهم إلى مكة، فإذا قضوا حجهم قال لكل واحد منهم: ما أمرك عيالك أن تشتري لهم من متاع مكة؟ فيقول: كذا وكذا، فيشتري لهم، ثم يخرجهم من مكة، فلا يزال ينفق عليهم إلى أن يصيروا إلى مرو فيجصص بيوتهم، وأبوابهم، فإذا كان بعد ثلاثة أيام، عمل لهم وليمة وكساهم، فإذا أكلوا وسُرُّوا دعا بالصندوق، ففتحه ودفع إلى كل رجل منهم صرته عليها اسمه.
ولما عوتب فيما يفرق من المال في البلدان دون بلده، قال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل، وصدق، طلبوا الحديث فأحسنوا طلبه لحاجة الناس إليهم احتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد صلى اللهُ عليه وسلم، لا أعلم بعد النبوة أفضل من بيت العلم.
وهذه رسالة لكل تاجر أن ينفق من ماله للفقراء، والمحتاجين، وطلبة العلم، والمشاريع الخيرية، فإن في ذلك بركة وخير له في ماله، روى الإمام أحمد في مسنده مِن حَدِيثِ عَمرِو بنِ العَاصِ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «نِعْمًا بِالْمَالِ الصَّالِحِ لِلرَّجُلِ الصَّالِحِ» (¬1).
وفي الصحيحين مِن حَدِيثِ أبي هريرة رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَا مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ الْعِبَادُ فِيهِ إِلَّا مَلَكَانِ يَنْزِلَانِ فَيَقُولُ أَحَدُهُمَا: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، وَيَقُولُ الْآخَرُ: اللَّهُمَّ أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» (¬2).
وروى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي هُرَيرَةَ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ» (¬3).
ومن أقواله العظيمة رحمه الله أنه كان يقول: رُبَّ عَمَلٍ صَغِيرٍ تُكَثِّرُهُ النِّيَّةُ، وَرُبَّ عَمَلٍ كَثِيرٍ تُصَغِّرُهُ النِّيَّةُ.
وقال أيضًا: مَنِ اسْتَخَفَّ بِالعُلَمَاءِ ذَهَبَتْ آخِرَتُهُ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالأُمَرَاءِ ذَهَبَتْ دُنيَاهُ، وَمَنِ اسْتَخَفَّ بِالإِخْوَانِ ذَهَبَتْ مُرُوءَتُهُ.
قال علي بن الحسن: سمعت ابن المبارك، وسأله رجل عن قرحة خرجت في ركبته منذ سبع سنين، وقال: عالجتها بأنواع العلاج، وسألت الأطباء، فلم أنتفع به، فقال له: اذهب، فاحفر بئرًا في مكان حاجة إلى الماء، فإني أرجو أن ينبع هناك عين، ويمسك عنك الدم، ففعل الرجل فبرأ.
قال سويد بن سعيد: رأيت ابن المبارك بمكة أتى زمزم فاستسقى شربة ثم استقبل القبلة فقال: اللهم إن ابن أبي الموال حدثنا عن محمد بن المنكدر عَن جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «مَاءُ زَمْزَمَ لِمَا شُرِبَ لَهُ» (¬4) وهذا أشربه لعطش يوم القيامة، ثم شربه.
قال محمد بن إبراهيم: أملى علي ابن المبارك سنة سبع وسبعين ومئة وأنفذها معي إلى الفضيل بن عياض من طرسوس:
يَا عَابِدَ الحَرَمَيْنِ لَوْ أَبْصَرْتَنَا
لَعَلِمْتَ أَنَّكَ فِي العِبَادَةِ تَلْعَبُ
مَنْ كَانَ يَخْضِبُ خَدَّهُ بِدُمُوعِهِ
فَنُحُورُنَا بِدِمَائِنَا تَتَخَضَّبُ
أَو كَانَ يُتعِبُ خَيْلَهُ فِي بَاطِلٍ
فَخُيُولُنَا يَوْمَ الصَّبِيحَةِ تَتعَبُ
رِيحُ العَبِيرِ لَكُمْ وَنَحْنُ عَبِيرُنَا
رَهَجُ السَّنابِكِ وَالغُبَارُ الأَطْيَبُ (¬5)
وَلَقَد أَتَانَا مِن مَقَالِ نَبِيِّنَا
قَوْلٌ صَحِيحٌ صَادِقٌ لَا يُكْذَبُ
لَا يَسْتَوِي غُبَارُ خَيلِ اللهِ فِي
أَنْفِ امرِئٍ وَدُخَانُ نَارٍ تَلهَبُ
هَذَا كِتَابُ اللهِ يَنْطِقُ بَيْنَنَا
لَيْسَ الشَّهِيدُ بِمَيْتٍ لَا يُكْذَبُ
فألفيت الفضيل بكتابه في الحرم، فقرأه وبكى، ثم قال: صدق أبو عبد الرحمن ونصح.
وقد رآه أحد أصحابه في المنام بعد وفاته فقال: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي برحلتي في الحديث، عليك بالقرآن، عليك بالقرآن.
وكانت وفاته سنة (181هـ) وله من العمر ثلاثة وستون عامًا، رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا (¬6).
وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.
¬_________
(¬1) «مسند الإمام أحمد» (29/ 299) (برقم 17763)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط مسلم.
(¬2) «صحيح البخاري» (برقم 1442)، و «صحيح مسلم» (برقم 1010).
(¬3) «صحيح مسلم» (برقم 2588).
(¬4) «سنن ابن ماجة» (برقم 3062)، وصححه الشيخ الألباني في «إرواء الغليل» (4/ 320) (برقم 1123).
(¬5) الرهج: الغبار، والسنابك: جمع سنبك، طرف حافر الخيل وجانباه من قدام.
(¬6) انظر: «سير أعلام النبلاء» (8/ 378 - 421).