[عودة] الكلمة الواحدة والسبعون: أحوال الموتى والمحتضرين

الكلمة الواحدة والسبعون: أحوال الموتى والمحتضرين
الحَمدُ للهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللهِ، وَأَشهَدُ أَن لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، وَبَعدُ:
قَالَ تَعَالَى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُوم (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُون (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لاَّ تُبْصِرُون (85) فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِين (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِين (87)} [الواقعة: 83 - 87].
المراد: ساعة الاحتضار، {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُون (84)} إلى المحتضر وما يكابده من سكرات الموت، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} بعلمنا وقدرتنا وملائكتنا، ولكن لا تبصرونهم (¬1).
قال ابن القيِّم رحمه الله: «إن الله سبحانه جعل أمر الآخرة وما كان متصلًا بها غيبًا وحجبها عن إدراك المكلفين في هذه الدار وذلك من كمال حكمته وليتميز المؤمنون بالغيب من غيرهم، فأول ذلك أن الملائكة تنزل على المحتضر وتجلس قريبًا منه ويشاهدهم عيانًا ويتحدثون عنده ومعهم الأكفان والحنوط، إما من الجنة وإما من النار، وَيُؤَمِّنُونَ على دعاء الحاضرين بالخير أو الشر، وقد يسلمون على المحتضر ويرد عليهم تارة بلفظه وتارة بإشارته وتارة بقلبه، حيث لا يتمكن من نطق ولا إشارة، وقد سُمِع بعض المحتضرين يقول: أهلًا وسهلًا ومرحبًا بهذه الوجوه، وأخبرنا شيخنا عن بعض المحتضرين فلا أدري أشاهده أو أُخبر عنه أنه سُمع وهو يقول: عليك السلام ها هنا فاجلس، وعليك السلام ها هنا فاجلس» (¬2). اهـ.
وذكر ابن أبي الدنيا أن عمر بن عبد العزيز لما كان في يومه الذي مات فيه قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: «أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت (ثلاث مرات) ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فَأَحَدَّ النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظرًا شديدًا يا أمير المؤمنين، ثم قرأ الآية: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلاَ فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِين (83)} [القصص: 83]، فقال: إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جن، ثم قبض» (¬3).
وقال فضالة بن دينار: حضرت محمد بن واسع وقد سُجِّيَ للموت فجعل يقول: مرحبًا بملائكة ربي ولا حول ولا قوة إلا بالله، وشممت رائحة طيبة لم أشم رائحة قط أطيب منها، ثم شَخَصَ بصره فمات، والآثار في ذلك أكثر من أن تحصر وأبلغ (¬4).
قال ابن القيم رحمه الله: «ولقد أخبر بعض الصادقين أنه حفر ثلاثة أَقْبُرٍ، فلما فرغ منها اضطجع ليستريح فرأى فيما يرى النائم ملكين نزلا فوقفا على أحد الأقبرِ فقال أحدهما لصاحبه: اكتب فرسخًا في فرسخ - والفرسخ ثلاثة أميال وهو ما يساوي أربع كيلو ونصف تقريبًا - ثم وقفا على الثاني فقال: اكتب ميلًا في ميل، ثم وقفا على الثالث فقال: اكتب فِترًا في فتر، ثم انتبه فجيء برجل غريب لا يؤبه له فدفن في القبر الأول، ثم جيء برجل آخر فدفن في القبر الثاني، ثم جيء بامرأةٍ مُتْرَفَةٍ من وجوه البلد حولها ناس كثير فدفنت في القبر الضيق الذي سمعه يقول فترًا في فتر - والفتر ما بين الإبهام والسبابة -».
وحدثني صاحبنا أبو عبد الله محمد بن الرزيز الحراني: أنه خرج من داره بعد العصر بآمد إلى بستان، قال: فلما كان قبل غروب الشمس توسطت القبور، فإذا بقبر منها وهو جمرة نار مثل كوز الزجاج (¬5)، والميت في وسطه، فجعلت أمسح عيني وأقول: أنا نائم أم يقظان؟ ثم الْتَفَتُّ إلى سور المدينة وقلت: والله ما أنا بنائم، ثم ذهبت إلى أهلي وأنا مدهوش، فأتوني بطعام فلم أستطع أن آكل، ثم دخلت البلد فسألت عن صاحب القبر؟ فإذا به مَكَّاس (¬6) وقد توفي ذلك اليوم.
فرؤية هذه النار في القبر كرؤية الملائكة والجن تقع أحيانًا لمن شاء الله أن يريه ذلك، فإذا شاء الله سبحانه أن يُطْلِعَ على ذلك بعض عبيده أطلعه وَغَيَّبَهُ عن غيره، إذ لو اطَّلَعَ عليه العباد كلهم لزالت كلمة التكليف والإيمان بالغيب، ولما تدافن الناس.
روى مسلم في صحيحه مِن حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا، فَلَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ الَّذِي أَسْمَعُ مِنْهُ» (¬7) (¬8).
ومن أحوال المحتضرين أن أحدهم قيل له: قل: لا إله إلا الله، فقال: آه آه لا أستطيع أن أقولها.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: حضرت رجلًا عند الموت يلقن: لا إله إلا الله، فقال في آخر ما قال: هو كافر بما تقول، ومات على ذلك، قال: فسألت عنه؟ فإذا هو مدمن خمر، فكان يقول: اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته.
وقيل لآخر: قل: لا إله إلا الله، فجعل يهذي بالغناء حتى قبضت روحه (¬9).
وفي صحيح مسلم مِن حَدِيثِ جَابِرٍ رضي اللهُ عنه: أَنَّ النَّبِيَّ صلى اللهُ عليه وسلم قَالَ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» (¬10).
قال ابن كثير رحمه الله: «والذنوب والمعاصي والشهوات تخذل صاحبها عند الموت مع خذلان الشيطان له، فيجتمع عليه الخذلان مع ضعف الإيمان، فيقع في سوء الخاتمة» (¬11).
وَالحَمدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحبِهِ أَجمَعِينَ.
¬_________
(¬1) «تفسير ابن كثير» (13/ 395).
(¬2) «الروح لابن القيِّم» (ص183 - 184).
(¬3) «الروح لابن القيِّم» (ص 184).
(¬4) «الروح لابن القيِّم» (ص 184).
(¬5) كوز الزجاج: موقد نار ملتهب يستعمله صانع الزجاج، فتنقلب فيه كتلة الزجاج جمرة مُتَّقِدَة.
(¬6) مَكَّاس: صاحب المَكْس، وهو الذي يجبي الضرائب من الناس.
(¬7) «صحيح مسلم» (برقم 2867).
(¬8) «الروح لابن القيِّم» (ص 185 - 187)، بتصرُّف.
(¬9) انظر: «جامع العلوم والحكم» (ص173)؛ و «الجواب الكافي» (ص147).
(¬10) «صحيح مسلم» (برقم 2878).
(¬11) «البداية والنهاية» (9/ 163).