[عودة] الكلمة الثامنة والعشرون: النهي عن المسألة
الكلمة الثامنة والعشرون: النهي عن المسألة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فمن الصفات المذمومة التي حذَّر منها الشارع: المسألة، والمقصود بالمسألة أن يسأل الإِنسان الناس أموالهم أو حاجاتهم من غير ضرورة أو حاجة ملحة، لما يتضمن السؤال من الذل لغير الله تعالى.
قال سبحانه: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة:273].
قال ابن كثير في تفسيره: أراد لا يلحون في المسألة ولا يكلفون الناس ما لا يحتاجون إليه، فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة فقد ألحف في المسألة (¬1).
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَيْسَ الْمِسْكِينُ بِهَذَا الطَّوَّافِ الَّذِي يَطُوفُ عَلَى النَّاسِ فَتَرُدُّهُ اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ وَالتَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ». قَالُوا: فَمَا الْمِسْكِينُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «الَّذِي لاَ يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلاَ يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ، وَلاَ يَسْأَلُ النَّاسَ شَيْئًا» (¬2).
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ سَأَلَ النَّاسَ أَمْوَالَهُمْ تَكَثُّرًا، فَإِنَّمَا يَسْأَلُ جَمْرًا، فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَستكْثِرْ» (¬3).
قال أبو حامد الغزالي: والسؤال في الأصل أنه حرام، وإنما يُباح لضرورة أو حاجة ملحة قريبة من الضرورة؛ لما فيه من الشكوى من الله تعالى، وفيه إظهار قصور نعمة الله على عبده وهو عين الشكوى، وفيه إذلال السائل نفسه لغير الله تعالى، وكذلك أنه لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالبًا، فقد يعطيه حياءً أو رياءً وهذا حرام على الآخذ (¬4).
قال الشاعر:
مَنْ يَسْأَلِ النَّاسَ يَحْرِمُوهُ ... وَسَائِلُ اللهَ لاَ يَخِيبُ
وقال آخر:
لاَ تَسْأَلَنَّ بُنَيَّ آدَمَ حَاجَةً ... وَسَلِ الَّذِي أَبْوَابَه لاَ تُحْجَبُ
اللهُ يَغْضَبُ إِنْ تَرَكتَ سُؤَالَهُ ... وَبُنَيَّ آدَمَ حِينَ يُسْأَلُ يَغضَبُ
وقال آخر:
فَلَو تَسْأَلِ النَّاسَ التُّرابَ لأَوْشَكُوا ... إِذَا قُلت هَاتُوا أَنْ يَمِلُّوا فَيَمْنَعُوا
وقد بين النبي - صلى الله عليه وسلم - من تحل له المسألة، فروى مسلم في صحيحه من حديث قبيصة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ لاَ تَحِلُّ إِلا لأَحَدِ ثَلاَثَةٍ: رَجُلٍ تَحَمَّلَ حَمَالَةً (¬5) فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ اجْتَاحَتْ مَالَهُ (¬6) فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ (¬7) حَتَّى يَقُومَ ثَلاَثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحِجَا مِنْ قَوْمِهِ: لَقَدْ أَصَابَتْ فُلاَنًا فَاقَةٌ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ قِوَامًا مِنْ عَيْشٍ، فَمَا سِوَاهُنَّ مِنَ الْمَسْأَلَةِ يَا قَبِيصَةُ سُحْتًا يَاكُلُهَا صَاحِبُهَا سُحْتًا (¬8)» (¬9).
وروى الترمذي في سننه من حديث سمرة بن جندب - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ الْمَسْأَلَةَ كَدٌّ يَكُدُّ بِهَا الرَّجُلُ وَجْهَهُ، إِلاَّ أَنْ يَسْأَلَ الرَّجُلُ سُلْطَانًا، أَوْ فِي أَمْرٍ لاَ بُدَّ مِنْهُ» (¬10).
قال الصنعاني: وأما سؤاله السلطان فإنَّه لا مذمة فيه؛ لأنه إنما يسأل مما هو حق له في بيت المال، ولا منة للسلطان على السائل، لأنه وكيل، فهو كسؤال الإِنسان وكيله أن يعطيه من حقه الذي لديه (¬11).
وقال أيضًا: والظاهر من الأحاديث تحريم السؤال إلا للثلاثة المذكورين في حديث قبيصة، أو أن يكون السلطان (¬12). اهـ.
قال الشاعر:
وَذُقْتُ مَرَارَة الأَشيَاء جَمْعًا ... فَمَا طَعمٌ اَمَرُّ مِنَ السُّؤَال
وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدر الغنى الذي يحرم به السؤال، فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث سهل ابن الحنظلية: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: إنَّهُ «مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ مَا يُغْنِيهِ فَإِنَّمَا يَسْتَكْثِرُ مِنْ جَمرِ جَهَنَّمَ». قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا يُغْنِيهِ؟ قَالَ: «مَا يُغَدِّيهِ أَوْ يُعَشِّيهِ» (¬13).
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العمل وإن كان شاقًا، والمال الذي يأتي منه قليل فهو خير للمرء من السؤال.
فروى البخاري في صحيحه من حديث الزبير بن العوام - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأََنْ يَاخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَاتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ، فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللهُ بِهَا وَجْهَهُ، خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ» (¬14).
وبيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن السائل من غير ضرورة ولا حاجة ملحة إنما يفتح على نفسه باب الفقر.
روى الترمذي في سننه من حديث أبي كبشة الأنماري - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ثَلاَثَةٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ، - وذكر منها: - وَلاَ فَتَحَ عَبْدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتَحَ اللهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ» (¬15). اهـ. بل إن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ البيعة من بعض أصحابه أن لا يسألوا الناس شيئًا.
روى مسلم في صحيحه من حديث عوف بن مالك - رضي الله عنه - قال: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - تِسْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً، فَقَالَ: «أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟» وَكُنَّا حَدِيثَ عَهْدٍ بِبَيْعَةٍ، فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ. ثُمَّ قَالَ: «أَلا تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟». فَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ. ثُمَّ قَالَ: «أَلاَ تُبَايِعُونَ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -؟» قَالَ: فَبَسَطْنَا أَيْدِيَنَا وَقُلْنَا: قَدْ بَايَعْنَاكَ يَا رَسُولَ اللهِ فَعَلاَمَ نُبَايِعُكَ؟ قَالَ: «عَلَى أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلاَ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، - وَأَسَرَّ كَلِمَةً خَفِيَّةً - وَلاَ تَسْأَلُوا النَّاسَ شَيْئًا». فَلَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ أُولَئِكَ النَّفَرِ يَسْقُطُ سَوْطُ أَحَدِهِمْ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا يُنَاوِلُهُ إِيَّاهُ» (¬16).
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث ثوبان - رضي الله عنه -: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «مَنْ يَتَقَبَّلُ لِي بِوَاحِدَةٍ وَأَتَقَبَّلُ لَهُ بِالْجَنَّةِ؟». قَالَ: قُلْتُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: «لاَ تَسْأَلِ النَّاسَ شَيْئًا». قَالَ: فَرُبَّمَا سَقَطَ سَوْطُ ثَوْبَانَ وَهُوَ عَلَى بَعِيرِهِ، فَمَا يَسْأَلُ أَحَدًا أَنْ يُنَاوِلَهُ حَتَّى يَنْزِلَ إِلَيْهِ فَيَاخُذَهُ (¬17).
وكان الصحابة رضي الله عنهم يأخذون بهذا التوجيه النبوي الكريم، فلا يسألون الناس شيئًا من متاع الدنيا.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث حكيم بن حزام - رضي الله عنه - قال: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: «يَا حَكِيمُ إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ، كَالَّذِي يَاكُلُ وَلاَ يَشْبَعُ، الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى»، قَالَ حَكِيمٌ: فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لاَ أَرْزَأُ أَحَدًا بَعْدَكَ شَيْئًا حَتَّى أُفَارِقَ الدُّنْيَا، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ - رضي الله عنه - يَدْعُو حَكِيمًا إِلَى الْعَطَاءِ فَيَابَى أَنْ يَقْبَلَهُ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّ عُمَرَ - رضي الله عنه - دَعَاهُ لِيُعْطِيَهُ فَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ مِنْهُ شَيْئًا. فَقَالَ عُمَرُ: إِنِّي أُشْهِدُكُمْ يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَكِيمٍ، أَنِّي أَعْرِضُ عَلَيْهِ حَقَّهُ مِنْ هَذَا الْفَيْءِ فَيَابَى أَنْ يَاخُذَهُ. فَلَمْ يَرْزَا حَكِيمٌ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - حَتَّى تُوُفِّيَ - رضي الله عنه - (¬18).
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه -: أَنَّ نَاسًا سَأَلُوا النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ، حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: «مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ، وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللهُ، وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنَ الصَّبْرِ» (¬19).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) تفسير ابن كثير (2/ 478).
(¬2) صحيح البخاري برقم (1476)، وصحيح مسلم برقم (1039).
(¬3) صحيح مسلم برقم (1041).
(¬4) إحياء علوم الدين (4/ 223) باختصار وتصرف.
(¬5) يعني ديناً أو دية عن غير للإصلاح.
(¬6) يعني حريق أو هلاك زرع أو غير ذلك.
(¬7) يعني فقر وضرورة بعد غنى.
(¬8) السحت هو الحرام.
(¬9) صحيح مسلم برقم (1044).
(¬10) سنن الترمذي برقم (681) وقال: حديث حسن صحيح.
(¬11) سبل السلام (1/ 632).
(¬12) سبل السلام (1/ 636).
(¬13) جزء من حديث في مسند الإمام أحمد (29/ 166) برقم (17625)، وقال محققوه: إسناده صحيح.
(¬14) صحيح البخاري برقم (1471).
(¬15) جزء من حديث في سنن الترمذي برقم (2325)، وقال: حديث حسن صحيح.
(¬16) صحيح مسلم برقم (1043).
(¬17) مسند الإمام أحمد (37/ 67 - 68) برقم (22385)، وقال محققوه: حديث صحيح.
(¬18) صحيح البخاري برقم (1472)، وصحيح مسلم برقم (1035).
(¬19) صحيح البخاري برقم (1469)، وصحيح مسلم برقم (1053).