[عودة] الكلمة الرابعة والثلاثون: النسيان آفته، وفوائده
الكلمة الرابعة والثلاثون: النسيان آفته، وفوائده
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
قال تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115] قال المفسرون: إنه الترك، والمعنى: ترك ما أُمر به، وقيل: من النسيان الذي يخالف الذكر.
روى الإمام أحمد في مسنده والترمذي في سننه من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما قال: لَمَّا نَزَلَتْ آيَةُ الدَّيْنِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم: «إِنَّ أَوَّلَ مَنْ جَحَدَ آدَمُ عليه السلام، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَمَّا خَلَقَ آدَمَ مَسَحَ ظَهْرَهُ، فَأَخْرَجَ مِنْهُ مَا هُوَ ذَارِئٌ (¬1) إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَجَعَلَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ، فَرَأَى فِيهِمْ رَجُلًا يَزْهَرُ (¬2)، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ، مَنْ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا ابْنُكَ دَاوُدُ، قَالَ: أَيْ رَبِّ، كَمْ عُمْرُهُ؟ قَالَ: سِتُّونَ عَامًا، قَالَ: رَبِّ زِدْ فِي عُمْرِهِ، قَالَ: لَا، إِلَّا أَنْ أَزِيدَهُ مِنْ عُمْرِكَ، وَكَانَ عُمْرُ آدَمَ أَلْفَ عَامٍ، فَزَادَهُ أَرْبَعِينَ عَامًا، فَكَتَبَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَيْهِ بِذَلِكَ كِتَابًا، وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةَ، فَلَمَّا احْتُضِرَ آدَمُ، وَأَتَتْهُ الْمَلَائِكَةُ لِتَقْبِضَهُ، قَالَ: إِنَّهُ قَدْ بَقِيَ مِنْ عُمُرِي أَرْبَعُونَ عَامًا، فَقِيلَ: إِنَّكَ قَدْ وَهَبْتَهَا لِابْنِكَ دَاوُدَ، قَالَ: مَا فَعَلْتُ، وَأَبْرَزَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابَ وَشَهِدَتْ عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ» (¬3)، وفي رواية الترمذي: «وَنُسِّيَ آدَمُ فَنُسِّيَتْ ذُرِّيَّتُهُ» (¬4). وفي رواية: «فَمِنْ يَوْمِئِذٍ أُمِرَ بِالكِتَابِ وَالشُّهُودِ» (¬5).
قال بعض أهل اللغة: «النسيان ضد الذكر، والحفظ، وهو ترك الشيء على ذهول وغفلة» (¬6).
والنسيان أيضاً يُطلق على الترك، قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} أي لا تتركوا، وقال تعالى: {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (126)} [طه: 126].
قال ابن كثير: «أي لما أعرضت عن آيات الله وعاملتها معاملة من لم يذكرها بعد بلاغها إليك تناسيتها وأعرضت عنها وأغفلتها، كذلك اليوم نعاملك معاملة من نسيك، قال تعالى: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف: 51]. فالجزاء من جنس العمل» (¬7).
قال ابن جرير وغيره: «{وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى}، فكذلك اليوم ننساك، فنتركك في النار» (¬8).
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ تَعَالَى يَقُولُ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ، وَأُزَوِّجْكَ، وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ، وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى، فَيَقُولُ: أَفَظَنَنْتَ أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي» (¬9).
والنسيان صفة نقص، ولذلك نزه الله عزَّ وجلَّ عنها نفسه، قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64].
وقد رفع الله الحرج عن أمة محمد صلى اللهُ عليه وسلم فيما حصل لهم فيه نسيان، فعلمنا أن ندعو فنقول: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَانَا} [البقرة: 286] قال الله: «قَدْ فَعَلْتُ» (¬10).
وروى ابن ماجه في سننه من حديث أبي ذر الغفاري رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ، وَالنِّسْيَانَ، وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» (¬11).
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أنس رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ نَسِيَ صَلَاةً فَلْيُصَلِّ إِذَا ذَكَرَهَا، لَا كَفَّارَةَ لَهَا إِلَّا ذَلِكَ» (¬12).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «مَنْ أَكَلَ نَاسِيًا وَهُوَ صَائِمٌ فَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ، فَإِنَّمَا أَطْعَمَهُ اللَّهُ وَسَقَاهُ» (¬13).
وآفة العلم النسيان، قال عبد الله بن مسعود رضي اللهُ عنه: «إن لكل شيء آفة، وآفة العلم النسيان»، وقال الزهري: «آفة العلم النسيان وترك المذاكرة».
روى البخاري في صحيحه من حديث عمر بن الخطاب رضي اللهُ عنه قال: «قَامَ فِينَا النَّبِيُّ صلى اللهُ عليه وسلم مَقَامًا فَأَخْبَرَنَا عَنْ بَدْءِ الْخَلْقِ، حَتَّى دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ مَنَازِلَهُمْ، وَأَهْلُ النَّارِ مَنَازِلَهُمْ، حَفِظَ ذَلِكَ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ» (¬14).
وينبغي للمؤمن أن يكون على استعداد دائمٍ للقاء ربه، وألا يكون في غفلة ونسيان، قال تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]. والشيطان يُنسي المؤمن الخير والطاعة، قال نبي الله موسى فيما حكاه الله عنه: {وَمَا أَنسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63]. وقال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ} [المجادلة: 19]. وقال تعالى: {فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِين} [يوسف: 42]. وقال تعالى: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين} [الأنعام: 68].
من الفوائد:
أولاً: رحمة الله بعباده عامة، وبأمة محمد صلى اللهُ عليه وسلم خاصة، حيث عُفي لها عن النسيان.
ثانياً: من ترك شيئاً من الواجبات نسياناً، رُفع عنه الإثم، وعليه أداؤه إذا ذكر.
ثالثاً: النسيان من صفات النقص، والله تعالى مُنَزَّهٌ عنه.
رابعاً: النسيان سبب لضياع الحقوق، وذهاب العلم، من أجل ذلك أمر الله بكتابة الحقوق، والإشهاد عليها، وأمر الرسول صلى اللهُ عليه وسلم بكتابة العلم، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282]. وقال تعالى: {وَأَشْهِدُوْا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282].
روى الحاكم في المستدرك من حديث عبد الله بن عمرو رضي اللهُ عنهما أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «قَيِّدُوا الْعِلْمَ»، قُلْتُ: وَمَا تَقْييدُهُ؟ قَالَ: «كِتَابَتُهُ» (¬15).
خامساً: من صفات المؤمن أنه يذكر ذنوبه، ويتوب منها، ويذكر الحقوق فيؤديها، ومن صفات الظالم أنه ينسى الذنوب، ويضيع الحقوق، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57]. وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُون (44)} [الأنعام: 44].
سادساً: الخوف على العلم أن يُنسى من صفات الأنبياء والصالحين، ولما خاف النبي صلى اللهُ عليه وسلم من نسيان القرآن طمأنه ربه فقال: {سَنُقْرِؤُكَ فَلاَ تَنسَى} [الأعلى: 6]. وقال: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَه} [القيامة: 17].
سابعاً: نسيان القرآن ونحوه مذمة؛ ولذلك أرشد النبي صلى اللهُ عليه وسلم: «أَنْ لَا يَقُولَ المُؤْمِنُ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: نُسِّيتُ» (¬16).
ثامناً: النسيان من وسائل الشيطان، ومن فضائل الرحمن، والفرق بينهما: أن الذي من الشيطان؛ نسيان الذكر والقرآن والخير، وما إلى ذلك من الحقوق، والذي يحبه الرحمن؛ نسيان الأحقاد وإساءة الأقارب، والأصدقاء، وسائر المؤمنين.
تاسعاً: إن النسيان يأتي بمعنى الترك، قال تعالى: {وَلاَ تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237]. وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُون (67)} [التوبة: 67].
قال ابن جرير وغيره: «تركوا الله أن يطيعوه، ويتبعوا أمره، فتركهم الله من توفيقه وهدايته ورحمته» (¬17).
اللهم ذكرنا ما نُسِّينَا، وعلمنا ما جهلنا، وانفعنا بما علمتنا يا كريم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) والذاري: من صفات الله عزَّ وجلَّ، وهو الذي ذرأ الخلق، أي خلقهم.
(¬2) أي يضيء وجهه حسناً.
(¬3) مسند الإمام أحمد (4/ 128) برقم 2270 وقال محققوه حسن لغيره.
(¬4) برقم 3076 وقال حديث حسن صحيح.
(¬5) صحيح ابن حبان برقم 6134.
(¬6) مختار الصحاح للرازي ص658 والمعجم الوسيط ص920.
(¬7) تفسير ابن كثير (9/ 379).
(¬8) تفسير ابن جرير الطبري (7/ 5656).
(¬9) برقم 2968.
(¬10) صحيح مسلم برقم 125.
(¬11) برقم 2043 وصححه الألباني في صحيح سنن ابن ماجه (1/ 347) برقم 1662.
(¬12) صحيح البخاري برقم 597 وصحيح مسلم 684 ..
(¬13) صحيح البخاري برقم 6669 وصحيح مسلم 1155 ..
(¬14) برقم 3192.
(¬15) (1/ 303) برقم 369 وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (5/ 41) برقم 2026.
(¬16) صحيح البخاري برقم 5032 وصحيح مسلم برقم 790.
(¬17) تفسير ابن جرير (5/ 4040).