[عودة] الكلمة الحادية عشرة: تأملات في قوله تعالى

الكلمة الحادية عشرة: تأملات في قوله تعالى:
{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (19)}
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه (19) إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيه (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَة (22) قُطُوفُهَا دَانِيَة (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه (29) خُذُوهُ فَغُلُّوه (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوه (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوه (32) إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيم (33) وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيم (35) وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِين (36) لاَ يَاكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُون (37)} [الحاقة: 19 - 37].
قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيه (19)} يخبر تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه بيمينه وفرحه بذلك، وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه {اقْرَؤُوا كِتَابِيه}؛ لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة راجحة، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي اللهُ عنه أنه سُئل عن النجوى، فقال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ، فَيَقُولُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ أَيْ رَبِّ، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ، قَالَ: سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، فَيُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ فَيَقُولُ الْأَشْهَادُ: {هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين (18)} [هود: 18]» (¬1).
قوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيه (20)} أي قد كنت موقناً في الدنيا أن هذا اليوم كائن لا محالة، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُون} [البقرة: 46].
قوله تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة (21)} أي مرضية، قد رضوها ولم يختاروا عليها غيرها.
قوله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَة (22)} أي رفيعة قصورها، حسان حورها، ناعمة دورها، دائم حبورها، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ، مَا بَيْنَ الدَرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ»، أُرَاهُ قَالَ: «وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ» (¬2).
قوله تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَة (23)} قال البراء بن عازب رضي اللهُ عنه: أي قريبة يتناولها أحدهم وهو نائم على سريره.
قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَة (24)} أي يُقال لهم ذلك تفضلاً عليهم وامتناناً وإحساناً، وإلا فقد ثبت في الصحيحين من حديث عائشة رضي اللهُ عنها أن النبي صلى اللهُ عليه وسلم قال: «سَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا، فَإِنَّهُ لَا يُدْخِلُ أَحَدًا الْجَنَّةَ عَمَلُهُ»، قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: «وَلَا أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللَّهُ بِمَغْفِرَةٍ وَرَحْمَةٍ» (¬3).
قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيه (25)} هذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أُعطي أحدهم كتابه في العرصات بشماله، فحينئذ يندم غاية الندم، فيقول: يا ليتني لم أوت كتابيه لأنه يُبشر بالنار.
قوله تعالى: {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيه (26)} أي يا ليتني كنت نسياً منسياً كما قال تعالى: {إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا (40)} [النبأ: 40].
قوله تعالى: {يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَة (27)} قال الضحاك: يعني موتة لا حياة بعدها، وقال قتادة: تمنى الموت ولم يكن في الدنيا شيء أكره إليه منه.
قوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيه (28)} أي لم يدفع عني مالي عذاب الله وبأسه، بل خلص الأمر إليَّ وحدي فلا معين لي ولا مجير.
قال تعالى: {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيه (29)} أي ذهب واضمَحَلَّ فلم تنفع الجنود الكثيرة ولا العدد ولا الجاه العريض، بل ذهب كله أدراج الحياة، وفاتته بسببه المتاجر والأرباح، وحضر بدله الهموم والأحزان.
قوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوه (30)} أي يأمر الله الزبانية أن تأخذه عنفاً من المحشر فتغله أي تضع الأغلال في عنقه ثم تورده إلى جهنم فتصليه إياها أي تغمره فيها، قال تعالى: {إِذِ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاَسِلُ يُسْحَبُون (71) {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُون (72)} [غافر: 71 - 72].
قوله تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوه (32)} قال كعب الأحبار: كل حلقة منها قدر حديد النار، وقال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: بذراع الملك، قال ابن عباس رضي اللهُ عنهما: فاسلكوه أي انظموه فيها بأن تدخل في دبره وتخرج من فمه ويُعلق فيها، فلا يزال يُعذب هذا العذاب الفظيع، فبئس العذاب والعقاب.
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبد الله بن عمرو رضي اللهُ عنهما قال: قال رسول الله صلى اللهُ عليه وسلم: «لَوْ أَنَّ رَصَاصَةً مِثْلَ هَذِهِ - وَأَشَارَ إِلَى مِثْلِ جُمْجُمَةٍ (¬4) - أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الَارْضِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ، لَبَلَغَتِ الْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ مِنْ رَاسِ السِّلْسِلَةِ لَسَارَتْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا، اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ أَصْلَهَا أَوْ قَعْرَهَا» (¬5).
قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيم (33)} أي كافراً معانداً لرسله رادًّا ما جاؤوا به.
قوله تعالى: {وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِين (34)} ليس في قلبه رحمة يرحم بها الفقراء والمساكين، فلا يطعمهم من ماله ولا يحض غيره على إطعامهم.
قوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيم (35)} أي قريب أو صديق يشفع له لينجو من عذاب الله أو يفوز بثواب الله كما قال تعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاع (18)}.
قوله تعالى: {وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِين (36)} الغسلين: صديد أهل النار، وهو غاية في الحرارة، ونتن الريح، وقبح الطعم ومرارته.
قوله تعالى: {لاَ يَاكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُون (37)} أي: الذين أخطؤوا الصراط المستقيم وسلكوا سبل الجحيم، فلذلك استحقوا العذاب الأليم.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) برقم 2441 وصحيح مسلم برقم 2768.
(¬2) برقم 2790.
(¬3) صحيح البخاري برقم 6467 وصحيح مسلم برقم 2818.
(¬4) المراد بالجمجمة: جمجمة الرأس.
(¬5) (11/ 444) برقم 6856 وقال محققوه إسناده حسن، وأخرجه الحاكم من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ عن سعيد بن يزيد، وصححه ووافقه الذهبي.