[عودة] الكلمة الثانية والثمانون: شرح اسم الله البصير

الكلمة الثانية والثمانون: شرح اسم الله البصير
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
روى الإمامان البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تَسعَةً وَتِسعِينَ اسماً مِئَةً إِلَّا وَاحِداً مَن أَحصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» (¬1)، قال بعضهم: ورد ذكر البصير في كتاب اللَّه تعالى اثنتين وأربعين مرة، قال تعالى: {وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (233)} [البقرة]. وقال تعالى: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِير (19)} [الملك]. قال ابن كثير: واللَّه بصير بالعباد: أي هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة وهو الذي لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون وما ذاك إلا لحكمته ورحمته (¬2).
وإن سألت عن بصره فهو البصير جل جلاله الذي قد كمل في بصره أحاط بصره بجميع المُبْصرات في أقطار الأرض والسماوات حتى أخفى ما يكون فيها فيرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء وجميع أعضائها الباطنة والظاهرة وسريان القوت في أعضائها الدقيقة، ويرى سريان المياه في أغصان الأشجار وعروقها وجميع النباتات على اختلاف أنواعها وصغرها ودقتها، ويرى نياط عروق النملة والنحلة والبعوضة وأصغر من دون ذلك ويرى خيانات الأعين وتقلبات الأجفان وحركات الجنان ويرى ما تحت الأراضين السبع كما يرى ما فوق السماوات السبع (¬3).
قال ابن القيم رحمه الله:
وَهُوَ البصيرُ يَرى دبيبَ النملةِ
السوداءِ تحتَ الصخرِ والصوانِ
ويَرَى مجارِي القوتِ في أعضائِها
ويَرَى عروقَ بياضِها بِعَيَانِ
ويَرَى خياناتِ العيونِ بَلحْظِهَا
ويَرَى كذَاكَ تَقَلُّبَ الأجفان (¬4)
وقال المؤيد في الدين:
يَا مَنْ يَرَى مَدَّ البعوضِ جَناحَهَا
في ظلمةِ اللَّيْلِ البَهِيمِ الأَلْيَلِ
ويَرَى نِيَاطَ (¬5) عروقِهَا فِي نَحْرِهَا
والمُخَّ مِن تِلْكَ العظامِ النُحَّلِ
امْنُنْ عَليَّ بِتَوْبَةٍ تَمْحُو بِهَا
مَا كَانَ مِنِّي فِي الزَّمانِ الأولِ
ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم:
أولاً: إثبات صفة البصر للَّه لأنه وصف نفسه بذلك وهو أعلم بنفسه، وصفة البصر من صفات الكمال كصفة السمع فالمتصف بهما أكمل ممن لا يتصف بذلك، قال تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُون (50)} [الأنعام].
وقال تعالى موبخاً للكفار ومسفهاً عقولهم لعبادتهم الأصنام التي هي من الحجارة الجامدة: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195]. أي أنتم أكمل من هذه الأصنام لأنكم تسمعون وتبصرون فكيف تعبدونها وأنتم أفضل منها؟!
ثانياً: أن اللَّه تبارك وتعالى بصير بأحوال عباده خبير بصير بمن يستحق الهداية منهم، ممن لا يستحقها بصير بمن يصلح حاله بالغنى والمال وبمن يفسد حاله بذلك، قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِير (27)} [الشورى]. وهو بصير بالعباد شهيد عليهم الصالح منهم والفاسق قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير (2)} [التغابن]. بصير خبير بأعمالهم وذنوبهم، قال تعالى: {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًَا بَصِيرًا (17)} [الإسراء]. وسيجزيهم عليها أتم الجزاء (¬6).
ثالثاً: إذا علمنا أن اللَّه بصير حملنا ذلك على حفظ الجوارح وخطرات القلوب عن كل ما لا يرضي اللَّه، وحملنا أيضاً على خشيته في السرو العلانية في الغيب والشهادة لأنه يرانا على كل حال، فكيف نعصيه مع علمنا باطلاعه علينا؟! قال تعالى: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُوم (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِين (219)} [الشعراء]. ومن علم أنه يراه أحسن عمله وعبادته. روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال عن الإحسان: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» (¬7).
قال النووي رحمه الله: هذا من جوامع الكلم التي أُوتيها صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأنا لو قدرنا أن أحدنا قام في عبادة وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئاً مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت، واجتماعه بظاهره وباطنه وعلى الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به (¬8).
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آل وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) ص 526 برقم 2736، وصحيح مسلم 1076 برقم 2677.
(¬2) تفسير ابن كثير (3/ 37).
(¬3) موارد الأمان ص 27.
(¬4) النونية (2/ 215) لابن القيم بشرح ابن عيسى.
(¬5) قال في اللسان: النياط: الفؤاد، والنياط عرق علق به القلب من الوتين (7/ 418).
(¬6) النهج الأسمى في شرح أسماء اللَّه الحسنى (1/ 237).
(¬7) ص 36 برقم 8.
(¬8) شرح صحيح مسلم للنووي (1/ 157 - 158).