[عودة] الكلمة التاسعة والسبعون: سيرة عثمان بن عفان

الكلمة التاسعة والسبعون: سيرة عثمان بن عفان
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد،
فهذه مقتطفات من سيره علم من أعلام هذه الأمة، وخليفة من خلفائها الأماجد، صحابي جليل من أصحاب النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم نقتبس من سيرته العطرة الدروس والعبر، ولد هذا الصحابي قبل عام الفيل بست سنين على الصحيح وأسلم على يد أبي بكر الصديق، وكان من السابقين إلى الإسلام، زوجه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ابنته رقية، فلما ماتت زوجه أختها أم كلثوم، وكان يلقب بذي النورين قال العلماء: ولا يعرف أحد تزوج بنتي نبي غيره، قال فيه النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ» (¬1).
وقال فيه أيضاً: «بَشِّرهُ بِالجَنَّةِ عَلَى بَلوَى تُصِيبُهُ» (¬2) وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وأحد الستة الذين توفي النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو عنهم راض. إنه الخليفة الراشد أمير المؤمنين عثمان بن عفان أبو العاص القرشي الأموي وصفه أهل السير بأنه كان ربعة ليس بالطويل ولا بالقصير، حسن الوجه، أبيض اللون، مشرباً بالحمرة، كثير اللحية بعيد ما بين المنكبين، أحسن الناس ثغراً.
وقد كانت لهذا الصحابي مواقف عظيمة تدل على فضله ونصرته لهذا الدين فمن ذلك أنه هاجر الهجرتين الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة، وجهز جيش العسرة، وحفر بئر رومة وتصدق بها على المسلمين، كما قام بتوسعة المسجد النبوي، وفي عهد جمع القرآن الكريم، وتوسعت فتوحات المسلمين، ووصلت إلى مشارق الأرض ومغاربها. روى الترمذي من حديث عبد الرحمن بن سمرة قال: جاء عثمان رضي اللهُ عنه إلى النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بألف دينار قال الحسن بن واقع: وكان في موضع آخر من كتابي في كُمه حين جهز جيش العسرة فينثرها في حجره، قال عبد الرحمن: فرأيت النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقلبها في حجره ويقول: «مَا ضَرَّ عُثمَانُ مَا عَمِلَ بَعدَ اليَومِ» مرتين (¬3).
قال الزهري: جهز عثمان بن عفان جيش المسلمين في غزوة تبوك بتسعمائة وأربعين بعيراً وستين فرساً.
وروى الترمذي في سننه من حديث ثمامة بن حزن القُشيري قال: شهدت الدار، حين أشرف عليهم عثمان، فقال: ائتوني بصاحبيكم اللذين ألّباكم عليّ.
قال: فجيء بهما فكأنهما جملان، أو كأنهما حماران، قال: فأشرف عليهم عثمان، فقال: أنشُدكم باللَّه والإسلام، هل تعلمون أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدم المدينة وليس بها ماء يُستعذب غير بئر رُومة، فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَنْ يَشْتَرِي بِئْرَ رُومَةَ فَيَجْعَلَ دَلْوَهُ مَعَ دِلَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ»، فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن أشرب منها، حتى أشرب من ماء البحر قالوا: اللَّهم نعم.
قال: أنشدكم باللَّه والإسلام، هل تعلمون أن المسجد ضاق بأهله؟ فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَنْ يَشْتَرِي بُقْعَةَ آلِ فُلَانٍ فَيَزِيدَهَا فِي الْمَسْجِدِ بِخَيْرٍ لَهُ مِنْهَا فِي الْجَنَّةِ» فاشتريتها من صلب مالي، فأنتم اليوم تمنعوني أن أُصلي فيها ركعتين، قالوا: اللَّهم نعم.
قال: أنشدكم باللَّه وبالإسلام، هل تعلمون أني جهزت جيش العُسرة من مالي؟
قالوا: اللَّهم نعم.
ثم قال: أنشدكم باللَّه والإسلام، هل تعلمون أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان على ثَبِير مكة ومعه أبو بكر، وعمر، وأنا، فتحرك الجبل حتى تساقطت حجارته بالحضيض، قال: فركضه برجله، فقال: «اسكُن ثَبِيرُ فَإِنَّمَا عَلَيكَ نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ؟».
قالوا: اللَّهم نعم، قال: اللَّه أكبر، شهدوا لي ورب الكعبة: أني شهيد ثلاثاً (¬4).
وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن موهب قال: جاء رجل من أهل مصر حج البيت، فرأى قوماً جلوساً، فقال: من هؤلاء القوم؟ فقالوا: هؤلاء قريش، قال: فمن الشيخ فيهم؟ قالوا: عبد اللَّه بن عمر، قال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني، هل تعلم أن عثمان فر يوم أُحد؟ قال: نعم قال: تعلم أنه تغيب عن بدر ولم يشهد؟ قال: نعم، قال: تعلم أنه تغيب عن بيعة الرضوان فلم يشهدها، قال: نعم، قال: اللَّه أكبر، قال ابن عمر: تعال أبين لك، أما فراره يوم أحد فأَشهَد أن اللَّه عفا عنه وغفر له، وأما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكانت مريضة فقال له رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «إِنَّ لَكَ أَجرَ رَجُلٍ مِمَّن شَهِدَ بَدراً وَسَهمَهُ»، وأما تغيبه عن بيعة الرضوان، فلو كان أحد أعز ببطن مكة من عثمان لبعثه مكانه، فبعث رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عثمان، وكانت بيعة الرضوان بعدما ذهب عثمان إلى مكة، فقال رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بيده اليمنى: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ» فضرب بها على يده، فقال: «هَذِهِ لِعُثْمَانَ»، فقال له ابن عمر: اذهب بها الآن معك (¬5). وفي صحيح البخاري من حديث قتادة أن أنساً رضي اللهُ عنه حدثهم قال: صعد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحداً ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف، وقال: «اسْكُنْ أُحُدُ، - أَظُنُّهُ ضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ - فَلَيْسَ عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ، وَشَهِيدَانِ» (¬6).
وقد كانت لهذا الصحابي من الخصال الحميدة، والشمائل العظيمة الشيء الكثير فقد كان شديد الحياء. روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة قال: كان رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مضطجعاً في بيتي، كاشفاً عن فخذيه، أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال، فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له، وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وسوى ثيابه (قال محمد: ولا أقول ذلك في يوم واحد) فدخل فتحدث فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتش ولم تباله ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك! فقال: «أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ؟!» (¬7).
وقد اشتهر رضي اللهُ عنه بالكرم والإنفاق في سبيل اللَّه وقد تقدم ذكر شيء من ذلك.
أما عبادته فقد كان صواماً قواماً، قال ابن عمر في قول اللَّه تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9]: ذاك عثمان، قال حسان بن ثابت رضي اللهُ عنه:
ضَحَّوا بِأشْمَطَ عُنْوانُ السجودِ به
يُقَطِّعُ الليلَ تَسْبِيحاً وقُرْآناً
ومن أقواله العظيمة التي تدل على ورعه وتقواه أنه كان يقول: ما زنيت ولا سرقت لا في جاهلية ولا في إسلام.
وقد قُتل رضي اللهُ عنه سنة خمس وثلاثين من الهجرة محصوراً في داره في الفتنة المشهورة وقد جاوز الثمانين من عمره.
وقد ضحى بنفسه وقتل شهيداً مظلوماً، وكان باستطاعته أن يستعين بالصحابة للدفاع عنه، ولكنه لم يرغب أن تراق قطرة دم من أجله، وقد أخبره النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقتله ظلماً في حياته، وكانت هذه علامة من علامات النبوة، فروى الترمذي في سننه من حديث ابن عمر قال: ذكر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فتنة، فقال: «يُقْتَلُ فِيهَا هَذَا مَظْلُومًا» لِعُثْمَانَ (¬8)، وروى الترمذي في سننه من حديث عائشة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَا عُثْمَانُ إِنَّهُ لَعَلَّ اللَّهَ يُقَمِّصُكَ قَمِيصًا فَإِنْ أَرَادُوكَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ لَهُمْ» (¬9).
رضي اللَّه عن عثمان وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وجمعنا به في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) صحيح مسلم ص 977 برقم 2401.
(¬2) صحيح البخاري ص 705 برقم 3693، وصحيح مسلم ص 978 برقم 2403.
(¬3) ص 579 برقم (3701) وقال الترمذي: حديث حسن غريب من هذا الوجه، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 208).
(¬4) ص 579 برقم 3703 قال الترمذي: هذا حديث حسن.
(¬5) ص 706 برقم 3699.
(¬6) ص 706 برقم 3697.
(¬7) ص 977 برقم 2401.
(¬8) ص580 برقم 3708، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 210) برقم 2925.
(¬9) ص579 برقم 3705، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 210) برقم 2923.