[عودة] الكلمة الثالثة والسبعون: الوفاء

الكلمة الثالثة والسبعون: الوفاء
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فإن من الأخلاق الجميلة والصفات الحميدة التي حث عليها الشرع ورغَّب فيها: الوفاء، قال الراغب: الوفاء بالعهد إتمامه وعدم نقض حفظه (¬1)، وللوفاء أنواع عديدة باعتبار المُوفى به فهي قد تكون وفاء بالعهد وقد تكون وفاء بالعقد أو الميثاق، وقد تكون وفاء بالوعد. فالوفاء بالعهد كما ذكر الراغب إتمامه وعدم نقض حفظه، قال ابن عباس: العهود ما أحل اللَّه وما حرم وما فرض وما حد في القرآن كله (¬2). قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40]. وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولا (34)} [الإسراء].
وأما الوفاء بالعقد فالمراد به إما العهد وبذلك يتطابق مع التعريف الأول وقيل: العقود هي أوكد العهود، وقيل: هي عهود الإيمان والقرآن وقيل: هي ما يتعاقده الناس فيما بينهم (¬3)، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. أما الوفاء بالوعد فالمراد به أن يصبر الإنسان على أداء ما يعد به الغير ويبذله من تلقاء نفسه ويرهنه به لسانه حتى وإن أضربه ذلك.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد اللَّه بن عباس رضي اللهُ عنهما قال: أخبرني أبو سفيان أن هرقل قال له: سألتك ماذا يأمركم؟ فزعمت أنه «أمركم بالصلاة والصدق والعفاف والوفاء بالعهد وأداء الأمانة قال: وهذه صفة نبي» (¬4).
وأخبر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن أحق الشروط بالوفاء شروط النكاح. روى البخاري ومسلم من حديث عقبة بن عامر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «أَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ تُوفُوا بِهِ مَا اسْتَحْلَلْتُمْ بِهِ الْفُرُوجَ» (¬5).
وأداء الدين من الوفاء، روى البخاري في صحيحه من حديث وهب بن كيسان عن جابر بن عبد اللَّه رضي اللهُ عنه أنه أخبره أن أباه توفي وترك عليه ثلاثين وسقاً لرجل من اليهود، فاستنظره جابر فأبى أن ينظره، فكلم جابر رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليشفع له إليه، فجاء رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وكلم اليهودي ليأخذ ثمر نخله بالذي له فأبى، فدخل رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم النخل فمشى فيها، ثم قال لجابر: «جُدَّ لَهُ فَأَوفِ لَهُ الَّذِي لَهُ»، فجده بعد ما رجع رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم (¬6).
وأداء حقوق اللَّه تعالى من الوفاء بالعهد. روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي اللهُ عنهما: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ جُهَيْنَةَ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَالَتْ: إِنَّ أُمِّي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ، فَلَمْ تَحُجَّ حَتَّى مَاتَتْ، أَفَأَحُجُّ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، حُجِّي عَنْهَا، أَرَأَيْتِ لَوْ كَانَ عَلَى أُمِّكِ دَيْنٌ أَكُنْتِ قَاضِيَةً؟ اقْضُوا اللَّهَ، فَاللَّهُ أَحَقُّ بِالْوَفَاءِ» (¬7).
والوفاء بالعهد من صفات المؤمنين الصادقين، قال تعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيًّا (54)} [مريم]. قال ابن كثير: فصدق الوعد من الصفات الحميدة، كما أن خُلْفه من الصفات الذميمة، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُون (2) كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُون (3)} [الصف]. روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلَاثٌ: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ» (¬8).
ولما كانت هذه صفات المنافقين، كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين ولهذا أثنى اللَّه على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد وكذلك كان رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صادق الوعد أيضاً لا يعد أحداً شيئاً إلا وفى له به.
وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال: «حَدَّثَنِي فَصَدَقَنِي، وَوَعَدَنِي فَوَفَى لِي» (¬9) (¬10). اهـ.
روى البخاري ومسلم من حديث جابر رضي اللهُ عنه قال: لما مات النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، جاء أبا بكر مال من قبل العلاء بن الحضرمي، فقال أبو بكر: من كان له على النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دين، أو كانت له قبله عدة، فليأتنا. قال جابر: فقلت وعدني رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يعطيني هكذا وهكذا وهكذا، قال جابر: فعد في يدي خمسمئة ثم خمسمئة ثم خمسمئة (¬11).
وبين النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن الوفاء بالوعد جزاؤه الجنة. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عبادة بن الصامت أن رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَضْمَنْ لَكُمُ الْجَنَّةَ: اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ» (¬12).
قال الشاعر:
فَإِن تُجمَعِ الآفاتُ فالبُخْلُ شَرُّهَا
وَشَرٌّ مِنَ البخلِ المواعيدُ والمَطلُ
ولا خَيْرَ فِي وعدٍ إذا كانَ كاذباً
ولا خيرَ في قولٍ إذا لَمْ يَكُنْ فِعْلُ
ومما تقدم يتبين لنا فضل الوفاء وأنه من أوجب الواجبات. وإن من مظاهر عدم الوفاء التي انتشرت في بني آدم وهي كثيرة:
عدم الوفاء بعهد اللَّه وميثاقه، فإن اللَّه قد أخذ على بني آدم وذريته أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِين (172)} [الأعراف].
روى البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَهْوَنِ أَهْلِ النَّارِ عَذَابًا: لَوْ كَانَتْ لَكَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا أَكُنْتَ مُفْتَدِيًا بِهَا فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُ: قَدْ أَرَدْتُ مِنْكَ أَهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِى صُلْبِ آدَمَ أَنْ لَا تُشْرِكَ - أَحْسَبُهُ قَالَ -: وَلَا أُدْخِلَكَ النَّارَ فَأَبَيْتَ إِلَّا الشِّرْكَ» (¬13).
ومنها عدم الوفاء مع الوالدين فإنهما السبب بعد اللَّه في وجود الإنسان، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا (23)} [الإسراء]. ونسمع قصصاً عجيبة للتنكر لجميل الوالدين يندى لها الجبين، ويتفطر منها القلب.
ومنها عدم الوفاء بين الزوجين، فالمرأة ينبغي أن تكون وفيةً لزوجها، وكذلك الزوج يكون وفيًّا لزوجته فإن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مدح أم المؤمنين خديجة وكان وفيًّا لها؛ فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا ذكر خديجة أثنى عليها فأحسن الثناء، قالت: فغِرت يوماً فقلت: ما أكثر ما تذكرها حمراء الشدق، قد أبدلك اللَّه عزَّ وجلَّ بها خيراً منها، قال: «مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْراً مِنْهَا قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ» (¬14).
ومن وفائه أنه كان يذبح الشاة ويقطع اللحم ويوزعه على أصدقاء خديجة وعندما دخلت أخت خديجة هاله رحب بها وأكرمها (¬15)، وقال: «حُسنُ العَهدِ مِنَ الإِيمَانِ» (¬16).
وإن مما أشاع التفكك الأسري في مجتمعات المسلمين وأثار المشكلات بين الأزواج هو الإخلال بهذه الخلة.
ومنها عدم الوفاء بين الأصدقاء، فإن بعض الناس يكون له صديق إما في تجاره أو دراسة أو في عمل أو غير ذلك، فإذا ارتفع في دنياه إما بحصوله على منصب عال أو أصبح من أصحاب الأموال الطائلة أو غير ذلك، ترفع عن أصدقائه ولم يظهر لهم الود السابق وكأنه لا يعرفهم قبل ذلك وهذا ليس من الوفاء بل من التنكر للجميل، وليس من شيم الرجال ولا من أخلاقهم.
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) المفردات ص 528.
(¬2) عمدة التفسير للشيخ أحمد شاكر (4/ 62 - 63).
(¬3) مختصر تفسير البغوي (1/ 210).
(¬4) ص 510 برقم 2681 وصحيح مسلم ص 736 – 737 برقم 1773.
(¬5) ص 520 برقم 2721 وصحيح مسلم ص 558 برقم 1418.
(¬6) ص 449 برقم 2396.
(¬7) ص 353 برقم 1852.
(¬8) ص 30 برقم 33، وصحيح مسلم ص 56 برقم 59.
(¬9) ص 595 برقم 3110، وصحيح مسلم ص 994 برقم 2449.
(¬10) تفسير ابن كثير (9/ 258 – 259).
(¬11) ص510 برقم 2683، وصحيح مسلم ص947 برقم 2314.
(¬12) (37/ 417) برقم 22757، وقال محققوه: حسن لغيره.
(¬13) ص 1255 برقم 6557، وصحيح مسلم ص 1128 برقم 2805.
(¬14) (41/ 356) برقم 24864 وقال محققوه: حديث صحيح.
(¬15) صحيح البخاري ص 725 رقم 3816، وصحيح مسلم ص 988 برقم 2435.
(¬16) مستدرك الحاكم (1/ 165) رقم 41 وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، وقال محقق المستدرك: وهو حديث حسن بشواهده إن شاء اللَّه.