[عودة] الكلمة التاسعة والستون: شرح اسم الله الغني

الكلمة التاسعة والستون: شرح اسم الله الغني
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مِئَةً إِلَّا وَاحِدًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬1).
ومن أسماء اللَّه الحسنى التي وردت في كتاب اللَّه تعالى: «الغني». قال بعضهم ذكر «الغني» في كتاب اللَّه في ثماني عشرة آية. قال تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ} [يونس: 68]. وقال تعالى: {إِن تَكْفُرُوا أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيد (8)} [إبراهيم]. والغني في كلام العرب الذي ليس بمحتاج إلى غيره، قال الخطابي: هو الذي استغنى عن الخلق وعن نصرتهم وتأييدهم لملكة فليست به حاجة إليهم وهم إليه فقراء محتاجون كما وصف نفسه (¬2) فقال: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد (15)} [فاطر].
ومن آثار الإيمان بهذا الاسم العظيم:
أولاً: إن اللَّه تعالى شأنه هو الغني بذاته الذي له الغنى التام من جميع الوجوه لكماله وكمال صفاته فبيده خزائن السماوات والأرض وخزائن الدنيا والآخرة فالرب غني لذاته والعبد فقير لذاته محتاج إلى ربه لا غنى له عنه طرفة عين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:
والفَقْرُ لي وَصْفُ ذَاتٍ لاَزمٍ أبداً
كَمَا أَنَّ الغِنَى أَبداً وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي (¬3)
روى الإمام أحمد في مسنده من حديث بسر بن جحاش أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ فَوَضَعَ عَلَيْهَا أُصْبُعَهُ، ثُمَّ قَالَ: «قَالَ اللَّهُ: ابْنَ آدَمَ، أَنَّى تُعْجِزُنِي، وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إِذَا سَوَّيْتُكَ وَعَدَلْتُكَ، مَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ (¬4)، فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ، حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (¬5)، قُلْتَ: أَتَصَدَّقُ، وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ» (¬6).
فأكمل الخلق أكملهم عبودية وأعظمهم شهوداً لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه وعدم استغنائه عنه طرفة عين ولهذا كان من دعائه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «أَصْلِحْ لِي شَانِي كُلَّهُ، وَلَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ» (¬7).
وكان يدعو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ» (¬8).
يعلم عليه الصلاة والسلام أن قلبه بيد الرحمن لا يملك منه شيئاً وأن اللَّه يصرفه كيف يشاء.
ثانياً: أن اللَّه تعالى الغني له ملك السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، قال تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد (64)} [الحج].
روى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: يَا عِبَادِي: إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي: لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ، وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا» (¬9) فجميع الخلق مفتقرون إلى اللَّه الغني الواسع في طلب مصالحهم ودفع مضارهم في أمور دينهم ودنياهم والعباد لا يملكون لأنفسهم شيئاً من ذلك كله، قال تعالى: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيم (2)} [فاطر] ..
فاللَّه عزَّ وجلَّ هو الغني الذي يطعم ويسقي ويحيي ويميت ويُغني ويفقر، قال تعالى عن إبراهيم: {قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُون (75) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُون (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلاَّ رَبَّ الْعَالَمِين (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِين (78)} [الشعراء].
وبالجملة: فإن جميع المخلوقات مفتقرة إليه تعالى في وجودها، فلا وجود لها إلا به، فهي مفتقرة إليه قي قيامها، فلا قوام لها إلا به، فلا حركة ولا سكون إلا بإذنه، فهو الحي القيوم القائم بنفسه فلا يحتاج إلى شيء، القيم لغيره فلا قوام لشيء إلا به، فالخالق له مطلق الغنى وكماله، وللمخلوق مطلق الفقر إلى اللَّه وكماله، قال الشاعر:
وَهُوَ الغَنِيُّ بِذَاتِه سُبْحَانَهُ
جَلَّ ثَنَاؤه تعالى شَانُهُ
وكُلَّ شَيءٍ رِزْقُهُ عَلَيِهِ
وَكُلُّنَا مُفْتَقِرٌ إِليْهِ (¬10)
ثالثاً: أن اللَّه تعالى غني عن عباده لا يريد منهم طعاماً ولا شراباً لم يخلقهم ليستكثر بهم من قلة، أو يستقوي بهم من ضعف، أو ليستأنس بهم من وحشة بل هم المحتاجون إليه في طعامهم وشرابهم وسائر شؤونهم، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُون (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُون (57)} [الذاريات].
رابعاً: أن يتعفف المؤمن عن أموال الناس وحاجاتهم وأن يسأل الغني الكريم من فضله، قال تعالى: {وَاسْأَلُوا اللهَ مِن فَضْلِهِ} [النساء:32].
روى الترمذي في سننه من حديث علي رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقول: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ» (¬11).
وروى البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد الخدري رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «مَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ، وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ» (¬12).
وروى مسلم في صحيحه من حديث ابن مسعود رضي اللهُ عنه أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى، وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى» (¬13)، فمن اجتهد واستعان باللَّه وألح عليه في السؤال لم يخيبه اللَّه فإنه أمر بالدعاء ووعد عليه الإجابة في جميع الأدعية (¬14).
خامساً: أن اللَّه تعالى لكمال غناه واستغنائه عن خلقه قادر على أن يذهب الناس ويأت بخلق جديد وهذا ليس بعزيز على اللَّه، قال تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَا يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاء كَمَآ أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِين (133)} [الأنعام]. وقال تعالى: {هَاأَنتُمْ هَؤُلاَء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُم (38)} [محمد].
سادساً: أن اللَّه جل وعلا قرن غناه بالحمد، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد (15)} [فاطر]، لأنه ليس كل غني نافعاً بغناه إلا إذا كان الغني جواداً منعماً، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم، واستحق عليهم الحمد، وليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم، المستحق بإنعامه عليهم أن يحمدوه (¬15) (¬16).
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) ص 1409 برقم 7392، وصحيح مسلم ص 1076 برقم 2677.
(¬2) شأن الدعاء ص 92 - 93.
(¬3) طريق الهجرتين لابن القيم ص7.
(¬4) الوئيد صوت شدة الوطء على الأرض، أي مشيت متكبراً وتركت النظر في أصلك وفي أمر خالقك.
(¬5) التراقي عظام بين ثغرة النحر والعاتق.
(¬6) (29/ 385) برقم 17842، وقال محققوه: إسناده حسن.
(¬7) جزء من حديث أخرجه أبو داود ص 549 برقم 5090، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم 3388.
(¬8) مسند الإمام أحمد (19/ 160)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم وأصله في صحيح مسلم.
(¬9) ص 1039 برقم 2577.
(¬10) معارج القبول (1/ 168).
(¬11) ص 559 برقم 3563 وقال: هذا حديث حسن غريب.
(¬12) ص 287 برقم 1469، صحيح مسلم ص 404 برقم 1053.
(¬13) ص1090 برقم 2721.
(¬14) المجموعة الكاملة للشيخ السعدي (1/ 496).
(¬15) الجامع لأحكام القرآن (14/ 215).
(¬16) انظر الأسماء الحسنى والصفات العلى للشيخ عبدالهادي وهبي ص62 - 80.