[عودة] الكلمة الواحدة والستون: معجزاته عليه الصلاة والسلام
الكلمة الواحدة والستون: معجزاته عليه الصلاة والسلام
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وبعد،
فإن اللَّه أجرى على يد أنبيائه ورسله من المعجزات والدلائل القاطعات ما يدل على صدق دعواهم أنهم رسل اللَّه ولكي تقوم الحجة فلا يبقى لأحد عذر في عدم تصديقهم وطاعتهم، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25].
والمعجزة على قسمين:
الأول: ضرب هو من نوع قدرة البشر فعجزوا عنه فتعجيزهم عنه فعل للَّه دل على صدق نبيه كتحدي اليهود أن يتمنوا الموت، قال تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِين (6)} [الجمعة].
الثاني: ضرب خارج عن قدرتهم لا يقدرون على الإتيان بمثله كانشقاق القمر مما لا يمكن أن يفعله أحد إلا اللَّه تعالى، فيكون ذلك على يد النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من فعل اللَّه تعالى وتحدي من يكذبه أن يأتي بمثله تعجيزاً له.
ومعجزات الرسول صلَّى اللهُ عليه وسلَّم التي ظهرت على يديه تشمل النوعين: فهو صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أكثر الرسل معجزات وأبهرهم آية، فله من المعجزات ما لا يعد ولا يحصى وقد أُلفت في معجزاته المؤلفات الكثيرة.
وقد أعطى اللَّه عزَّ وجلَّ كل نبي من الأنبياء عليهم السَّلام معجزة خاصة لم يعطها بعينها لنبي غيره تحدى بها قومه، وكانت معجزة كل نبي تقع مناسبة لحال قومه، فلما كان الغالب على زمان موسى عليه السَّلام السحر وتعظيم السحرة بعثه اللَّه بمعجزة بهرت الأبصار، وحيرت كل ساحر، قال تعالى: {فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِين (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِين (108)} [الأعراف]. وقال تعالى: {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69)} [طه]. فلما استيقن السحرة أن هذا من عند اللَّه انقادوا وأسلموا.
وأما عيسى عليه السَّلام فقد بعثه اللَّه في زمن الأطباء فجاءهم من الآيات بما لا سبيل لأحد إليه إلا أن يكون مؤيداً من الذي شرع الشريعة، قال تعالى: {وَأُبْرِاءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللهِ} [آل عمران: 49].
وكذلك نبينا محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعث في زمن الفصحاء والبلغاء فأتاهم بكتاب من عند اللَّه فاتهمه أكثرهم أنه اختلقه وافتراه من عنده فتحداهم ودعاهم أن يعارضوا ويأتوا بمثله وليستعينوا بمن شاءوا من ذلك فعجزوا، قال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَاتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَاتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88)} [الإسراء].
ثم تحداهم على أن يأتوا بعشر سور ثم بسورة واحدة ثم أخبر أنهم لا يستطيعون ذلك لا في الحال ولا في المآل، قال تعالى: {وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَاتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِين (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا وَلَن تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِين (24)} [البقرة].
ومن معجزاته العظيمة: الإسراء والمعراج فقد أُسريَ به إلى المسجد الأقصى على دابة يقال لها: البراق وهو أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل وصلى ركعتين في المسجد الأقصى ثم عرج به إلى السماء والتقى بالأنبياء آدم وموسى وعيسى وهارون وغيرهم، حتى وصل إلى سدرة المنتهى وسمع صريف الأقلام وكلمه ربه وفرضت عليه الصلوات الخمس ثم هبط إلى المسجد الأقصى وهبط الأنبياء معه (¬1). قال ابن كثير: «والذي يظهر أنه صلى بهم صلاة الصبح وهنا ظهر شرفه وفضله على جميع الأنبياء عليه وعليهم أفضل الصلاة وأتم التسليم ثم أخبر قريش بالخبر فكذبوه وقالوا: إن كنت صادقاً فصف لنا بيت المقدس وكانوا يذهبون إليه ويعرفونه» (¬2)، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ، وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، قَالَ: فَرَفَعَهُ اللَّهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلَّا أَنْبَاتُهُمْ بِهِ» (¬3).
ومن معجزاته عليه الصلاة والسلام: انشقاق القمر، روى البخاري ومسلم من حديث أنس: أن أهل مكة سألوا رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن يريهم آية، فأراهم القمر شقتين، حتى رأوا حراء بينهما (¬4).
قال الخطابي: فكان هذا الانشقاق آية عظيمة لا يكاد يعدلها شيء من آيات الأنبياء وذلك أنه ظهر في ملكوت السماء خارجاً من جملة طباع ما في هذا العالم المركب من الطبائع، فليس مما يطمع في الوصول إليه بحيلة فلذلك صار البرهان به أظهر (¬5) اهـ.
وقد ذكر اللَّه هذه المعجزة على أن انشقاق القمر وقع في زمن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات وأن الأحاديث قد وردت بذلك متواترة.
ومن معجزاته كذلك: تكثير الماء ونبعه من بين أصابعه ولحمه ودمه.
قال القرطبي: قضية نبع الماء من بين أصابعه تكررت منه في عدة مواطن في مشاهد عظيمة، ووردت من طرق كثيرة تفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من التواتر المعنوي، ولم يُسمع بمثل هذه المعجزة من غير نبينا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حيث نبع الماء ما بين عظمه وعصبه ولحمه ودمه (¬6). ومن هذه المواطن ما رواه البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد اللَّه قال: عطش الناس يوم الحديبية والنبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بين يديه ركوة (¬7). فتوضأ فجهش (¬8) الناس نحوه فقال: «مَا لَكُم؟» قالوا: ليس عندنا ماء نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك، فوضع يده في الركوة، فجعل الماء يثور بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا، قلت: كم كنتم؟ قال: لو كنا مائة ألف لكفانا، كنا خمس عشرة مائة (¬9).
ومن معجزاته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أنواع الجمادات: حنين الجذع شوقاً إلى رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وشفقاً من فراقه، وقد ورد ذلك كما قال الحافظ ابن كثير؛ من حديث جماعة من الصحابة بطرق متعددة تفيد القطع عند أئمة الشأن وفرسان هذا الميدان (¬10).
فمن ذلك ما رواه البخاري في صحيحه من حديث جابر أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة، فقالت امرأة من الأنصار أو رجل: يا رسول اللَّه ألا نجعل لك منبراً؟ قال «إِن شِئتُم» فجعلوا له منبراً، فلما كان يوم الجمعة دُفع إلى المنبر، فصاحت النخلة صياح الصبي ثم نزل النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فضمها إليه، تئن أنين الصبي الذي يسكن، قال: «كَانَت تَبكِي عَلَى مَا كَانَت تَسمَعُ مِنَ الذِّكرِ عِندَهَا» (¬11).
وفي رواية أخرى عن جابر قال: كان المسجد مسقوفاً على جذوع من نخل، فكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صُنع له المنبر وكان عليه، فسمعنا لذلك الجذع صوتاً كصوت العشار (¬12)، حتى جاء النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فوضع يده عليها فَسَكَنَتْ (¬13). وفي رواية من حديث ابن عباس: «وَلَو لَم أَحتَضِنهُ لَحَنَّ إِلَى يَومِ القِيَامَةِ» (¬14).
قال الشافعي: ما أعطى اللَّه نبياً ما أُعطي محمداً صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقيل له: أُعطي عيسى إحياء الموتى، فقال: أعطي محمد حنين الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك (¬15) اهـ. وذلك لأن هذا إحياء ما ليس من نوعه الحياة مع ما فيه من الاشتياق والبكاء عليه، بخلاف ما أُعطي لعيسى، قال ابن حجر: في الحديث دلالة على أن الجمادات قد يخلق اللَّه لها إدراكاً كالحيوان بل كأشرف الحيوان (¬16)، وكان الحسن البصري إذا حدث بهذا الحديث يقول: «يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شوقاً إلى لقائه، وأنتم أحق أن تشتاقوا إليه» (¬17).
ومن معجزاته: انقياد الشجر بين يديه في مرات عدة:
فروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك رضي اللهُ عنه قال: جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ جَالِسٌ حَزِينٌ قَدْ خُضِبَ بِالدِّمَاءِ، ضَرَبَهُ بَعْضُ أَهْلِ مَكَّةَ، قَالَ: فَقَالَ لَهُ: «وَمَا لَكَ؟» قَالَ: فَقَالَ لَهُ: «فَعَلَ بِي هَؤُلَاءِ وَفَعَلُوا»، قَالَ: فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَتُحِبُّ أَنْ أُرِيَكَ آيَةً؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَنَظَرَ إِلَى شَجَرَةٍ مِنْ وَرَاءِ الْوَادِي، فَقَالَ: ادْعُ بِتِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَدَعَاهَا فَجَاءَتْ تَمْشِي حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَرْجِعْ، فَأَمَرَهَا فَرَجَعَتْ إِلَى مَكَانِهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: حَسْبِي» (¬18) (¬19).
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) تفسير ابن كثير بتصرف (8/ 431).
(¬2) تفسير ابن كثير بتصرف (8/ 431).
(¬3) ص 96 برقم 172.
(¬4) ص 734 برقم 3868، وصحيح مسلم ص 1127 برقم 2802.
(¬5) فتح الباري (7/ 185).
(¬6) فتح الباري (6/ 585).
(¬7) إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء.
(¬8) أن يفزع الإنسان إلى الإنسان.
(¬9) ص 684 برقم 3576، وصحيح مسلم ص 776 برقم 1856 مختصراً.
(¬10) البداية والنهاية (8/ 679).
(¬11) ص686 برقم 3584.
(¬12) العشار: جمع عشراء وهي الناقة التي أتى عليها عشرة أشهر من حملها؛ جامع الأصول (11/ 333).
(¬13) ص686 برقم 3585.
(¬14) رواه أحمد في مسنده (4/ 107) برقم 2236، قال ابن كثير: هذا الإسناد على شرط مسلم؛ البداية والنهاية (8/ 681).
(¬15) فتح الباري (6/ 603).
(¬16) فتح الباري (6/ 603).
(¬17) فتح الباري (6/ 602 - 603).
(¬18) (19/ 165) برقم 12112، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم.
(¬19) انظر: نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (1/ 520 - 554).