[عودة] الكلمة الستون: التحذير من الكسل

الكلمة الستون: التحذير من الكسل
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فمن الصفات المذمومة التي ذمها اللَّه ورسوله صفة الكسل، قال الراغب: الكسل التثاقل عما لا ينبغي التثاقل عنه ولذلك صار مذموماً (¬1). اهـ، كالتثاقل عن الصلاة أو الجهاد أو الصيام أو غيرها من الطاعات.
والكسل من صفات المنافقين، قال تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَاتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُون (54)} [التوبة]. وقال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاَةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَأَىؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلا (142)} [النساء]. وقال تعالى محذراً عباده المؤمنين من الكسل والركون إلى الدنيا: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيل (38)} [التوبة]. وكان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتعوذ باللَّه من الكسل، روى مسلم في صحيحه من حديث أنس بن مالك قال: كان رسول اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْجُبْنِ وَالْهَرَمِ وَالْبُخْلِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ومِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ» (¬2).
قال ابن القيم رحمه الله: المقصود أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم استعاذ من الهم والحزن وهما قرينان، ومن العجز والكسل وهما قرينان، فإن تخلف كمال العبد وصلاحه عنه، إما أن يكون لعدم قدرته عليه فهو عجز، أو يكون قادراً عليه لكن لا يريد فهو كسل، وينشأ عن هاتين الصفتين فوات كل خير وحصول كل شر، ومن ذلك الشر تعطيله عن النفع ببدنه وهو الجبن وعن النفع بماله وهو البخل، ثم ينشأ له بذلك غلبتان غلبة بحق، وهي غلبة الدين، وغلبة بباطل وهي غلبة الرجال، وكل هذه المفاسد ثمرة العجز والكسل (¬3) اهـ.
وقال في موضع آخر: أصل المعاصي كلها العجز، فإن العبد يعجز عن أسباب أعمال الطاعات، وعن الأسباب التي تبعده عن المعاصي وتحول بينه وبينها فيقع في المعاصي. فجمع هذا الحديث الشريف في استعاذته صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أصول الشر وفروعه ومباديه وغاياته وموارده ومصادره (¬4).
قال الشاعر:
وَاحَسْرَتَاه تَقَضَّى العُمُرُ وَانْصَرَمَتْ
سَاعَاتُهُ بَيْنَ ذُلِّ العَجْزِ والكسلِ
والقومُ قَدْ أَخَذُوا دَرْبَ النَّجَاةِ وقَدْ
سَارُوا إِلَى المطلَبِ الأَعْلَى عَلَى مَهْلِ
وقد حث النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أمته على العمل والمسارعة إلى الخيرات والبعد عن العجز والتكاسل، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ» (¬5).
قال النووي رحمه الله: والمراد بالقوة عزيمة النفس والقريحة في أمور الآخرة فيكون صاحب هذا الوصف أكثر إقداماً على العدو في الجهاد وأسرع خروجاً إليه وذهاباً في طلبه وأشد عزيمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والصبر على الأذى في كل ذلك واحتمال المشاق في ذات اللَّه تعالى وأرغب في الصلاة والصوم، والأذكار وسائر العبادات وأنشط طلباً لها ومحافظة عليها ونحو ذلك. وقوله: «احرص على ما ينفعك واستعن باللَّه ولا تعجز» معناه: احرص على طاعة اللَّه تعالى والرغبة فيما عنده واطلب الإعانة من اللَّه تعالى ولا تعجز ولا تكسل عن طلب الطاعة ولا عن طلب الإعانة (¬6) اهـ.
قال الراغب الأصفهاني: وتأمل حال مريم عليها السلام وقد جعل لها من الرطب الجني ما كفاها مؤونة الطلب، وفيه أعظم معجزة فإنه لم يخلها من أن يأمرها بهزها، فقال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25)} [مريم] (¬7).
قال يزيد بن المهلب: ما يسرني أن كُفيت أمر الدنيا كله لئلا أتعود العجز (¬8).
والكسل على قسمين:
الأول: كسل العقل بعدم أعماله في التفكر والتدبر والنظر إلى آلاء اللَّه ونعمه العظيمة، قال تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 191]. وقال تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِين (11)} [الأنعام]. ومن كسل العقل عدم أعماله بما يصلحه من شؤون الدنيا كالزراعة والتجارة والصناعة وغيرها من الحرف وما تأخرت الأمم إلا بكسل أصحاب العقول فيها وقلة اكتراثهم بالقوة الإبداعية المفكرة التي أودعها اللَّه فيهم.
الثاني: كسل البدن: بما يشتمل عليه من الجوارح وينتج عن هذا الكسل تقصير بعض الأفراد في العبادات كأداء الصلوات في بيوت اللَّه والدعوة إلى اللَّه وطلب العلم الشرعي وغير ذلك من الطاعات (¬9). روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث عبد اللَّه قال: ذكر عند النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: رجل نام ليلة حتى أصبح قال: «ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيطَانُ فِي أُذُنَيهِ»، أو قال: «فِي أُذُنِهِ» (¬10).
وكذلك تأخر الأمم في مجال التقدم العلمي في الصناعة والتجارة وغيرها من الحرف التي تستغني بها عن الأمم الأخرى.
من أسباب طرد الكسل:
أولاً: الاستعانة باللَّه عزَّ وجلَّ فإنه المعين جلا وعلا كما ورد بذلك الحديث السابق: «استَعِن بِاللَّهِ وَلَا تَعجَز».
ثانياً: الاستعاذة منه كما كان النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتعوذ باللَّه منه.
ثالثاً: الوضوء والذكر والصلاة فقد روى البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قَالَ: «يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَاسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ، فَإِنِ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ» (¬11).
رابعاً: أن يتذكر العبد أن اللَّه تعالى حث على الجد والمسارعة إلى الخيرات، قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين (133)} [آل عمران].
وقال تعالى عن نبيه موسى عليه السَّلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} [طه]. وقال سبحانه لنبيه يحيى: {يَايَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12]، أي: التوراة بجد واجتهاد.
خامساً: أن يعلم العبد أن الكسل صفة ذميمة من صفات المنافقين ذمها اللَّه ورسوله.
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) المفردات ص 431.
(¬2) ص 1085 برقم 2706.
(¬3) زاد المعاد (2/ 364 - 362).
(¬4) زاد المعاد (2/ 358).
(¬5) ص1069 برقم 2664.
(¬6) شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 215).
(¬7) الذريعة إلى مكارم الشريعة ص383.
(¬8) المصدر السابق.
(¬9) انظر الذريعة إلى مكارم الشريعة ص 382 - 384 بتصرف. واختصار، نقلاً عن كتاب نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (11/ 5438 - 5439).
(¬10) ص 627 برقم 3270، وصحيح مسلم ص 3060 برقم 774.
(¬11) ص 225 برقم 1142، وصحيح مسلم ص 306 برقم 776.