[عودة] الكلمة التاسعة والخمسون: اليقين

الكلمة التاسعة والخمسون: اليقين
الحمد للَّه والصلاة والسلام على رسول اللَّه وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
فإن منازل الإيمان كثيرة، منها منزلة عظيمة هي من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد بها تفاضل العارفون، وتنافس المتنافسون، وإليها شمر العاملون بل قال بعض أهل العلم عن هذه المنزلة: إنها الإيمان كله إنها منزلة اليقين. قال الكفوي: اليقين هو أن تعلم الشيء ولا تتخيل خلافه (¬1).
قال تعالى: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِين (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيم (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين (7)} [التكاثر]. وقال تعالى: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِين (95)} [الواقعة]. روى ابن ماجه في سننه من حديث أبي هريرة أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «إِنَّ الْمَيِّتَ يَصِيرُ إِلَى الْقَبْرِ فَيُجْلَسُ الرَّجُلُ الصَّالِحُ فِي قَبْرِهِ غَيْرَ فَزِعٍ وَلَا مَشْعُوفٍ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ فَيَقُولُ: كُنْتُ فِي الإِسْلَامِ فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَصَدَّقْنَاهُ فَيُقَالُ لَهُ: هَلْ رَأَيْتَ اللَّهَ فَيَقُولُ: مَا يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَرَى اللَّهَ فَيُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا وَقَاكَ اللَّهُ ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ قِبَلَ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ وَيُقَالُ لَهُ: عَلَى الْيَقِينِ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَيُجْلَسُ الرَّجُلُ السُّوءُ فِي قَبْرِهِ فَزِعًا مَشْعُوفًا فَيُقَالُ لَهُ: فِيمَ كُنْتَ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي فَيُقَالُ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ فَيَقُولُ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ قَوْلًا فَقُلْتُهُ فَيُفْرَجُ لَهُ قِبَلَ الْجَنَّةِ فَيَنْظُرُ إِلَى زَهْرَتِهَا وَمَا فِيهَا فَيُقَالُ لَهُ: انْظُرْ إِلَى مَا صَرَفَ اللَّهُ عَنْكَ ثُمَّ يُفْرَجُ لَهُ فُرْجَةٌ قِبَلَ النَّارِ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ عَلَى الشَّكِّ كُنْتَ وَعَلَيْهِ مُتَّ وَعَلَيْهِ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى» (¬2).
واليقين على ثلاث درجات:
الأول: علم اليقين وهو قبول ما ظهر من الحق، وقبول ما غاب للحق، والوقوف على ما قام بالحق، فالذي ظهر من الحق هو أوامره ونواهيه وشرعه ودينه الذي أظهره على السنة رسله، وقبول ما غاب للحق وهو الإيمان بالغيب كالجنة والنار والصراط والحساب وما قبل ذلك مثل تشقق السماء وانتشار الكواكب وما قبل ذلك من أمور البرزخ، أما الوقوف على ما قام بالحق أي من أسمائه وصفاته وأفعاله وهو علم التوحيد.
الثاني: عين اليقين وهو ما استغنى به صاحبه عن طلب الدليل لأن الدليل إنما يطلب للعلم بالمدلول فإذا كان المدلول مشاهداً له فلا حاجة حينئذ للاستدلال، قال تعالى: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِين (7)} [التكاثر].
الثالث: حق اليقين وهي منزلة الرسل عليهم الصلاة والسلام فقد رأى نبينا محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعينيه الجنة والنار وكلم اللَّه موسى بلا واسطة أما بالنسبة لنا فإن حق اليقين يتأخر إلى وقت اللقاء.
ومما يوضح ذلك أن يخبرك شخص أن عنده عسلاً وأنت لا تشك في صدقه فهذا علم اليقين، فإذا أراك إياه فازددت يقيناً فهذا عين اليقين، فإذا ذقت منه فهذا حق اليقين، فعلمنا الآن بالجنة والنار علم اليقين، فإذا أُزلفت الجنة للمتقين وشاهدها الخلائق وبرزت الجحيم للغاوين وعاينها الخلائق فذلك عين اليقين، فإذا أُدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فذلك حينئذ حق اليقين (¬3)، قال تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِين (44)} [الأعراف]. قال ابن القيم رحمه الله: إذا تزوج الصبر باليقين ولد بينهما حصول الإمامة في الدين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُون (24)} [السجدة]. وقد خص سبحانه وتعالى أهل اليقين بالانتفاع بالآيات والبراهين فقال: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِين (20)} [الذاريات]. وخص أهل اليقين بالهدى والفلاح من بين العالمين فقال: {والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُون (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُون (5)} [البقرة: 4 - 5].
وأخبر عن أهل النار بأنهم لم يكونوا من أصحاب اليقين فقال سبحانه: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِين (32)} [الجاثية]. فاليقين روح أعمال القلوب التي هي أرواح أعمال الجوارح، وهو حقيقة الصديقية، وهو قطب هذا الشأن الذي عليه مداره (¬4).
وتأمل حال ذلك الصحابي الذي أخذ تمراته، وقعد يأكلها على حاجة وجوع وفاقةٍ إليها، فلما عاين سوق الشهادة قامت، ألقى قوته من يده، وقال: «إنها لحياة طويلة إن بقيت حتى آكل هذه التمرات»، وألقاها من يده وقاتل حتى قتل، وكذلك أحوال الصحابة رضي اللهُ عنهم (¬5).
وأخبر النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن اليقين سبب لدخول الجنة روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَقَامَ بِلَالٌ يُنَادِي فَلَمَّا سَكَتَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «مَنْ قَالَ مِثْلَ هَذَا يَقِينًا دَخَلَ الْجَنَّةَ» (¬6).
واليقين سبب لنجاة الأمة وصلاحها في الدنيا والآخرة، روى البيهقي في شعب الإيمان من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: «صَلَحَ أَمْرُ أَوَّلِ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِالزُّهْدِ وَالْيَقِينِ، وَهَلَكَ آخِرُهَا بِالْبُخْلِ وَالْأَمَلِ» (¬7).
وروى البخاري في صحيحه من حديث شداد بن أوس: عن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «سَيِّدُ الاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي فَاغْفِرْ لِي، فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ، قَالَ: وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ» (¬8).
قال الفيروزآبادي: ثلاثة من أعلام اليقين: قلة مخالطة الناس في العشرة، ترك المدح لهم في العطية، التنزه عن ذمهم عند المنع (¬9).
قال سفيان الثوري: «لو أن اليقين استقر في القلب كما ينبغي لطار فرحاً وحزناً وشوقاً إلى الجنة أو خوفاً من النار» (¬10).
ومن المعاني التي يُطلق عليها اليقين:
الموت: قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِين (99)} [الحجر]. وقال تعالى عن أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِين (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِين (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّين (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِين (47)} [المدثر].
ومنها أنه يُطلق ويراد به الظن وأن الظن قد يعبر عنه باليقين.
وقد ذكر المحققون ضوابط لتحديد المراد بالظن:
أحدها: أنه حيث وجد الظن محموداً مثاباً عليه فهو يقين وحيث وُجد مذموماً متوعداً عليه بالعذاب فهو الشك (وهذا من جهة المعنى).
الثاني: أن كل ظن يتصل به أن (المخفَّفة من الثقيلة) فهو شك وكل ظن يتصل به أنَّ المشدَّدة فهو يقين (¬11).
قال ابن مسعود: اليقين الإيمان كله (¬12).
وقال عامر بن عبد القيس: لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً (¬13).
والخلاصة: أن اليقين منزلة عظيمة من منازل الإيمان يزيد المسلم به من ربه قرباً وحباً ورضى، وهو لب الدين ومقصوده الأعظم، ويزيد العبد خضوعاً واستكانة لمولاه ويكسب صاحبه العزة والرفعة، ويباعده عن مواطن الذلة والضعة.
والحمد للَّه رب العالمين وصلى اللَّه على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) الكليات ص 67.
(¬2) ص 460 رقم 4268، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن ابن ماجه (2/ 224) برقم (3443).
(¬3) مدارج السالكين (2/ 297 - 299) بتصرف.
(¬4) مدارج السالكين (2/ 293 - 299) بتصرف.
(¬5) هو عمير بن الحمام رضي اللهُ عنه يوم أحد.
(¬6) (14/ 272) برقم 8624 وقال محققوه: حديث صحيح.
(¬7) (15/ 69) برقم 10046 وحسنه الألباني رحمه الله في صحيح الجامع الصغير برقم 3845.
(¬8) ص 1213 برقم 6306.
(¬9) مدارج السالكين (2/ 294).
(¬10) المصدر السابق.
(¬11) الكليات (588) ونضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم (8/ 3717 - 3718).
(¬12) صحيح البخاري كتاب الإيمان باب الإيمان ص 25.
(¬13) مدارج السالكين (2/ 296).