[عودة] الكلمة الثالثة عشرة: فضل قيام الليل
الكلمة الثالثة عشرة: فضل قيام الليل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وبعد:
فإن من أفضل الأعمال وأجل الطاعات التي رغب فيها الشارع قيام الليل، فهو دأب الصالحين، وتجارة المؤمنين، ففي الليل يخلو المؤمنون بربهم، فيشكون إليه أحوالهم، ويسألونه من فضله، فهم عاكفون على مناجاة ربهم، يرغبون ويتضرعون إلى واهب الخيرات وعظيم العطايا والهبات سبحانه.
قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17].
وقد ذكرهم الله تعالى بأحسن الذكر، فقال: {إِنَّ المُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * آَخِذِينَ مَا آَتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 15 - 18].
قال الحسن: كابدوا الليل، ومدوا الصلاة إلى السحر، ثم جلسوا في الدعاء، والاستكانة، والاستغفار (¬1).
وقال تعالى: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
روى الترمذي في سننه من حديث أبي أمامة الباهلي - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، فَإِنَّهُ دَابُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَهُوَ قُرْبَةٌ إِلَى رَبِّكُمْ، وَمَكْفَرَةٌ لِلسَّيِّئَاتِ، وَمَنْهَاةٌ لِلإِثْمِ» (¬2).
وروى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي مالك الأشعري - رضي الله عنه -: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا؛ أَعَدَّهَا اللهُ لِمَن أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَلاَنَ الكَلاَمَ، وَتَابَعَ الصِّيَامَ، وَصَلَّى وَالنَّاسُ نِيَامٌ» (¬3).
وروى الطبراني في معجمه الأوسط من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -؛ قال: «جَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -: فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَجزِيٌّ بِهِ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعلَمْ أَنَّ شَرَفَ الْمُؤْمِنِ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَعِزُّهُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنِ النَّاسِ» (¬4).
قال الشاعر يصف قومه وقد كانوا أهل جد واجتهاد في طاعة الله:
إِذَا مَا اللَّيلُ أَظْلَمَ كَابَدُوهُ ... فَيُسْفِرُ عَنهُمُ وَهُمُ رُكُوعُ
أَطَارَ الخَوْفُ نَومَهُمُ فَقَامُوا ... وَأَهْلُ الأَمْنِ فِي الدُّنْيَا هُجُوعُ
لَهُم تَحْتَ الظَّلَامِ وَهُمْ سُجُودٌ ... أَنِينٌ مِنْهُ تَنْفَرِجُ الضُّلُوعُ
وقد أمر الله نبيه بقيام الليل وحثه عليه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ* قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ القُرْآَنَ تَرْتِيلاً} [المزمل: 1 - 4].
وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
وكان صلوات الله وسلامه عليه يأخذ بهذا التوجيه الرباني الكريم ويستجيب لأمر ربه، تقول عائشة رضي الله عنها: كَانَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا صَلَّى قَامَ حَتَّى تَفَطَّرَ رِجْلاَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَتَصْنَعُ هَذَا، وَقَدْ غُفِرَ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! فَقَالَ: «يَا عَائِشَةُ أَفَلاَ أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟!» (¬5).
وروى مسلم في صحيحه من حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: «صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - ذَاتَ لَيْلَةٍ فَافْتَتَحَ الْبَقَرَةَ، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ عِنْدَ الْمِئَةِ. ثُمَّ مَضَى، فَقُلْتُ: يُصَلِّي بِهَا فِي رَكْعَةٍ، فَمَضَى، فَقُلْتُ: يَرْكَعُ بِهَا. ثُمَّ افْتَتَحَ النِّسَاءَ فَقَرَأَهَا، ثُمَّ افْتَتَحَ آلَ عِمْرَانَ فَقَرَأَهَا، يَقْرَأُ مُتَرَسِّلاً، إِذَا مَرَّ بِآيَةٍ فِيهَا تَسْبِيحٌ سَبَّحَ، وَإِذَا مَرَّ بِسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإِذَا مَرَّ بِتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ» (¬6).
وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحث أصحابه على قيام الليل ويرغِّبهم فيه، فقال في شأن عبد الله بن عمر: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ». قَالَ سَالِمٌ - ابن عبد الله بن عمر -: فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلاَّ قَلِيلاً (¬7).
وحثَّ أُمته على قيام الليل، فقال: «أَفْضَلُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ صَلاَةُ اللَّيْلِ» (¬8).
وروى أبو داود في سننه من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آيَاتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الْغَافِلِينَ، وَمَنْ قَامَ بِمِئَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ الْمُقَنْطَرِينَ» (¬9).
ووقت صلاة الليل من بعد صلاة العشاء إلى أذان الفجر، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «صَلاَةُ اللَّيْلِ مَثْنَى، مَثْنَى، فَإِذَا خَشِيَ أَحَدُكُمُ الصُّبْحَ صَلَّى رَكْعَةً وَاحِدَةً تُوتِرُ لَهُ مَا قَدْ صَلَّى» (¬10).
وروى مسلم في صحيحه من حديث جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ خَافَ أَنْ لاَ يَقُومَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ فَلْيُوتِرْ أَوَّلَهُ، وَمَنْ طَمِعَ أَنْ يَقُومَ آخِرَهُ فَلْيُوتِرْ آخِرَ اللَّيْلِ، فَإِنَّ صَلاَةَ آخِرِ اللَّيْلِ مَشْهُودَةٌ، وَذَلِكَ أَفْضَلُ» (¬11).
وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ، فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟» (¬12).
قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: لَوْلاَ ثَلاَثٌ مَا أَحْبَبْتُ العَيشَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا: الغَزوُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَمُكَابَدَةُ السَّاعَاتِ مِنَ اللَّيلِ، وَمُجَالَسَةُ أَقوَامٍ يَنْتَقُونَ أَطَايِبَ الْكَلاَمَ كَمَا يُنْتَقَى أَطَايِبُ التَّمْرِ (¬13).
ومن أعظم الأسباب التي تعين على قيام الليل: التبكير في النوم، فإن السهر آفة العصر، وخاصة إذا كان في غير طاعة الله كما هو حال الكثير من الناس، إما على مشاهدة دش أو تلفاز أو لعب ورق أو مجلس قيل وقال، أو غير ذلك.
ولذلك: كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَ الْعِشَاءِ، وَالْحَدِيثَ بَعْدَهَا (¬14).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: «وصلاة الليل في رمضان لها فضيلة ومزية على غيرها، روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» (¬15).
وقيام رمضان شامل للصلاة من أول الليل وآخره، وعلى هذا فالتراويح من قيام رمضان، فينبغي الحرص عليها والاعتناء بها واحتساب الأجر والثواب من الله عليها، وما هي إلا ليال معدودة ينتهزها المؤمن العاقل قبل فواتها». اهـ (¬16).
وعلى المسلم أن يحرص على القيام مع الإِمام حتى ينصرف، روى الترمذي في سننه من حديث أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه -: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إِنَّهُ مَنْ قَامَ مَعَ الإِمَامِ حَتَّى يَنْصَرِفَ كُتِبَ لَهُ قِيَامُ لَيْلَةٍ» (¬17).
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
¬_________
(¬1) مختصر قيام الليل للمروزي (ص96).
(¬2) سنن الترمذي برقم (3549)، قال أبو عيسى الترمذي وهذا أصح من حديث أبي إدريس عن بلال وصححه الألباني في صحيح الترمذي برقم (2814).
(¬3) (37/ 539) برقم (22905)، وقال محققوه: إسناده حسن.
(¬4) معجم الطبراني الأوسط (4/ 306) برقم (4278)، وقال المنذري في كتابه "الترغيب والترهيب" (1/ 485) حديث رقم (918): إسناده حسن.
(¬5) صحيح البخاري برقم (1130)، وصحيح مسلم برقم (2820).
(¬6) صحيح مسلم برقم (773).
(¬7) صحيح البخاري برقم (1121)، وصحيح مسلم برقم (2478).
(¬8) جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه برقم (1163) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -.
(¬9) سنن أبي داود برقم (1398)، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود (1/ 262) برقم (1246).
(¬10) صحيح البخاري برقم (1137)، وصحيح مسلم برقم (749).
(¬11) صحيح مسلم برقم (755).
(¬12) صحيح البخاري برقم (1145)، وصحيح مسلم برقم (758).
(¬13) مختصر قيام الليل للمروزي (ص62) بمعناه.
(¬14) صحيح البخاري برقم (568).
(¬15) صحيح البخاري برقم (2009)، وصحيح مسلم برقم (759).
(¬16) مجالس شهر رمضان (ص18).
(¬17) جزء من حديث رواه الترمذي في سننه برقم (806) وقال: هذا حديث حسن صحيح.